المقاومة هي الحل
يحقّ للشعب الفلسطيني، وكل المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، الاحتفاء بانتصار معركةٍ خاضها الشعب الفلسطيني على كل الجبهات، فهزّت أركان كيان كولونيالي عنصري اعتقد أن ترسانته العسكرية قتلت روح إرادة المقاومة عند الفلسطينيين، فلا سبيل لانتصار تحرّر الشعوب من نير الاحتلال غير المقاومة بكل أشكالها وأدواتها. والملحمة التي سطّرها الشعب الفلسطيني في الأسابيع الأخيرة لا تقتصر على صواريخ المقاومة، على أهميتها، بل بدأت بهبّة القدس، ووصلت إلى أراضي فلسطين التاريخية المحتلة منذ عام 1948 لتصبح هبّة شاملة، وضعت الدولة الصهيونية أمام شعب موحد في الداخل والشتات، وهذا أهم إنجاز يتحتم الحفاظ عليه وعدم تبديده، فثمنه معمّد بالدم.
تبعات هذا الإنجاز أن شعب فلسطين في أي مكان لم ينس أن فلسطين كل فلسطين، وكل شبر فيها، حق له، فالحكاية بدأت في سرقة وطن، وليس مجرّد احتلال أرض أو أراض، سرقة حاضر وماض ومستقبل، سرقة تراث وتاريخ وهوية، سرقة مستمرة ولن تتوقف. هذه هي الحقيقة التي قذفها الشعب الفلسطيني بوجه ممثلي المشروع الصهيوني، وهذا معنى وحدة الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، وإذا كان هناك تغيير في المعادلة السياسية، فهذا هو التغيير الأهم.
شعب فلسطين في أي مكان لم ينس أن فلسطين كل فلسطين، وكل شبر فيها، حق له
هي إنجازاتٌ لا يمكن الحفاظ عليها من دون برنامج ورؤية تحرّرية، وخطاب تحرّري لا يقبل أي إملاءاتٍ من أي نظام، أو من أي دولة صغرى أو عظمى، ودول كثير هرعت إلى تحقيق هدنة ووقف إطلاق نار، بدوافع مختلفة، معظمها ليس حرصا على حياة الفلسطينيين في قطاع غزّة، بل لاستعادة ما يسمّى الهدوء، بدعوى أن "الغضب الفلسطيني يعرقل الأجندات الدولية والإقليمية"، ولأن استمرار مشاهد الذعر بين الإسرائيليين، وأجساد أطفال دخلت في نومة أبدية ومشاهد الدمار في غزة، شكلت ضربة لمعاهدات التطبيع العربية. هذا يجعلني أقف بخشوع أمام كل أم وكل أب وأم وأخت فقدت بعض أو كل من تحبهم تحت ركام بيوتٍ اعتقدت أنها ملاذها الآمن. ولا يمكن أن نتجاهل عذاب أهل غزّة من حصار وحروب وتدمير صهيوني ممنهج لحياة شعب صامد ومقاوم، يعتبر هذا كله بكل بساطة تضحيات من أجل التحرير، فمشاعر النشوة بكل صاروخ يهز العدو ويكشف هشاشته يجب ألا تعمينا عن آلام أهل غزة وأهل كل شهيد أو أسير أو جريح، فبينما كنّا نتابع بطولاتٍ لا نستطيع الوصول إليها كانت إسرائيل تقترف جرائم حربٍ لا يمكن تصوّرها.
لا يحق لنا دعوة شعب في مرمى النيران إلى أي شكلٍ من المقاومة، وإنما علينا رفض إدانة أي شكل من المقاومة الفلسطينية، بما فيها الكفاح المسلح، المشروع في ميثاق الأمم المتحدة، ولا يحقّ لأي جهةٍ خارجيةٍ تحديد (أو فرض) نوع المقاومة "المرغوبة" من جانبه، فالشعب الفلسطيني لا يريد شهادات سلوك من أحد، وعلى الأنظمة العربية أو أي دولة أن تدعمه أو تصمت.
المطلوب الآن حوار حقيقي لتقييم المرحلة، من دون تجاوز حقيقة أن صواريخ فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، أخلت بمعادلة استراتيجية في الأهمية، فالإسرائيلي عادة ما يجلس في مقهى في تل أبيب أو يتمدد على شاطئ البحر ويسهر في ناد أو يجلس هانئاً في بيته، بينما يقصف الجيش الفلسطينيين أو يجتاح مدنهم أو يقتل من يشاء ويهدم بيوتا ويطرد فلسطينيين من بيوتهم، ويمضي الإسرائيلي في حياته غير مهتم ومكترث بما يحدث، وكأن جرائم الجيش تُرتكب في بلاد بعيدة، فإزعاجه ولو بكلمة ممنوع.
هذا تغييرٌ صادم لمجتمعٍ يعيش في قلعةٍ عسكريةٍ محصّنة، تهون فيه حياة الفلسطيني، فعلى الجيش السيطرة على الفلسطينيين، لإبقاء هذا الحصن هادئا منيعاً، ولكن السكان الفلسطينيين الأصليين انتفضوا في وجه السجان، ثم جاءته صواريخ، ليست بفعالية صواريخ مجهزة بتكنولوجيات متقدمة، لكنها هزت أمنه وأمانه، وهذا تغيير في المعادلة الاستراتيجية، قد لا يمكن استمراره، لكن يجب البناء على تداعياته.
عزلت القيادة الفلسطينية في رام الله نفسها بنفسها، معتمدةً على اعتراف الغرب بها، بشرطه استمرار التنسيق الأمني مع الدولة الصهيونية
أحدث النهوض الفلسطيني بأشكاله وإنجازاته كافة، إنجازات الهبّة الشاملة بكل تجلياتها، زخما نضاليا غير مسبوق، امتد إلى العالم العربي، بل والعالم، لكن ذلك لن يستمر، إذا لم يترجم بإنجازاتٍ ملموسةٍ بعضها آني، لا يمكن القفز عنها، في موازاة وضع رؤية استراتيجية للأهداف النضالية، فمشروعية كل أشكال المقاومة لا تكفي. الأهم هو كيفية توظيف كل منها، لأن ثمنها في الأرواح باهظ، والاستعداد للتضحية لا يبرّر هدر التضحيات، خصوصا إذا لم تكن هناك خطوات تنبي عن إنجازات جولة مواجهةٍ اشترك فيها معنوياً فلسطينيو الشتات وكل عربي وأجبني يؤمن بقيم التحرّر والحرية، فهناك جيش كبير في العالم العربي والعالم مستعدٌّ للاستمرار بالضغط على الحكومات وتحشيد رأي عام مؤيد للقضية الفلسطينية.
لا بد من المطالبة برفع حصار غزة، ووقف الإجلاء القسري في حي الشيخ جرّاح، وتحرير الأسرى، لكن ذلك لا يكفي، ولن يُعتبر، على أهميته، حفاظا على إنجاز الانتصار، فالحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني أولوية، لتشكيل قيادةٍ قادرة على فرض مطالب الشعب الفلسطيني، فحركة حماس لن تستطيع أن تتصرّف باعتبارها حركة همّها السلطة، فالشعب الذي التفّ حولها، حتى إن لم يكن يؤيدها أيدولوجيا سوف ينفضّ عنها، فالنصر لن يأتي بالقوة العسكرية، بل بنهوض حركة التحرّر بكل مكوناتها البشرية، ويكون الكفاح المسلح أداة توظّف في وقتها بشرط ألا تخسر حاضنتها الشعبية.
لا يحق لنا دعوة شعب في مرمى النيران إلى أي شكلٍ من المقاومة، وإنما علينا رفض إدانة أي شكل من المقاومة الفلسطينية
عزلت القيادة الفلسطينية في رام الله نفسها بنفسها، معتمدةً على اعتراف الغرب بها، بشرطه استمرار التنسيق الأمني مع الدولة الصهيونية، وهو الغرب الذي يلوّح بحل الدولتين إنقاذا لإسرائيل، ليس إيمانا بحرية الشعب الفلسطيني وحريته. غير أن جيلا جديدا في طريقه إلى أخذ زمام القيادة، فالشعب يلتف على قيادة تمثل مصالحه الوطنية، وليس على قيادة عاجزة ومكبلة. وذلك لا يعني أن "حماس" تستطيع أن تتبوأ القيادة وحدها، وإنما لديها فرصة تاريخية لهذا، على أن تخرج من عباءة أيدولوجية ضيقة، فهي الآن تجد نفسها في دور أكبر من قيادة فصيل ذي أيديولوجيا دينية، فهل تستطيع أن تكون في مستوى التحدّي؟ المطلوب قيادة جامعة، لاستعادة منظمة التحرير مظلة جامعة لحركة التحرر الفلسطيني، وأي توجه فئوي كفيل بإضعاف حركة حماس، وخسارتها الدعم الشعبي المتقدم وعيا وشجاعة.
وفي اللحظة الراهنة، أخطر خطوة يمكن أن تهدد التضحيات وتجهض النهوض الفلسطيني هي العودة إلى ما تسمى عملية السلام، أو أن تقبل "حماس" بأي مفاوضات مع الولايات المتحدة، فالغرب يسعى إلى تدجين الحركة، ولذا لن تكون مفاوضات مثل هذه إنجازا، لأنها ستكون مشروطة بإفراغ الحركة من مضمونها، فحالة النهوض التي شاركت حماس في صنعها لا تقبل بغير قيادات تحرّرية تكمل الطريق إلى التحرّر والحرية.