المقامة التربوية على الحدود البرّية

23 فبراير 2020
+ الخط -
حدّثني صديقي عبّود، عن عمّه أبي حمود، أنه ابتكر نظريةً، في الأصول التربوية، تحكي عن تنشئة الأولاد، ليكونوا قدوة للبلاد، كُن يا مربي بلا قلب، والجأ إلى الزجر والضرب، وإنه لَمِنَ الصواب والحكمة أن ترفع من قلبك الرحمة، فإن أخطأ الولد، ببساطة، اضربه بأقرب "شَحَّاطة"، وإن بكى لا تُصغِ إليه، وزده لطماً على شفتيه، حتى ينصاع ويخرس، وبصعوبةٍ يتنفس، فإذا تجاوز الضربُ الحد، وكسرتَ فخذه أو الزند، إياك أن تقلق لأجله، وتركض عليه لحمله، وتفكّر بالعدل والإنصاف، وتطلب له الإسعاف، فإن عاد سالماً إليك، لا تدعه يندلق عليك، وتُسمعه ذاك الجوابا، أن "سَلَامْتَكْ يا بابا"، فوالله هذا إن حصل، سيكون قمّة في الفشل. 
يمتلك عمّي أبو حمّود، ذكاء عابراً للحدود، ينتقد المربين الأجانب، فهم في أدنى المراتب، يتركون الولد على سجيّته، ويجيبون عن كل أسئلته، يأتونه بالكتب والألعاب، ويُلبسونه أجمل الثياب، وواحدُهم يناقش النسوان، كأنهم في البرلمان، فيا له من مغفلٍ غبي، (البنتْ عَنْدُه بسعرْ الصبي)، يؤمِّنُ لبناته طلباتهنّ، ويحترم أصغر رغباتهن، يراهن شموساً ساطعة، ويرسلهن إلى الجامعة، وما يزيدُ بالحسرة آهات، أن لحضراتهنَّ هوايات، فواحدة تهتم بالرسم، وأخرى بالتاتو والوشم، وثالثة تتابع الأخبار، ورابعة تدوزن الغيتار، فلو كان عنده تفكير، وقليلٌ من حُسن التدبير، لأغلق عليهنَّ الأبواب، وأبعد عنهن الارتياب، ولتُترك البنتُ في بيتها، إلى حين اعتدال بختها، فالمرأة تكون في الأوج، إذ تموت في بيت الزوج.
ودارت الأيام دورة، وقامت في البلاد ثورة، واضطربت الأحوالُ في البلاد، وباشر الأسد قتل العباد، وجاء الإيرانيون وأتباعُهم، وأنصافُ الرجال وأرباعُهم، والحاج قاسم سليماني يَعِدُ مرشدَه بالأماني: "سأقتل يا سيدي مَن حضر، وأمحوه من بين البشر" ونصر الله يشوبر باليدين، بدلَ المئة سيبعثُ مئتين، سيزيل عن حزبه النحس، ومن داريّا يحرّر القدس، ومن سراقب وسرمين، يحرّر كل فلسطين. وجاء من بعدهم الروس، يكسو وجوههم العبوس، في نفوسهم منّا غصة، ومن بلادنا لهم حصة، ومَن دافع عن ماله ما انهزم، ومَن حكمَ في رزقه ما ظلم.
وجاء الأفغاني والشيشاني، المصري والليبي والسوداني، والإنكليزي والأسترالي والأميركاني، وهذا يوقعك في بلوى، وذاك يُتحفك بفتوى، وبدأ في الجو التقاذُف، هذا روسي وهذا تحالُف، مَن جاء لرسم الحدود، ومن يقاتل ثأراً للجدود، وواحد أحب أن يتفرّج، وعازبٌ جاء يتزوج، وزيد يفكر بالإياب، وعَمرو يحارب الإرهاب، وكلما نشرت النساءُ الغسيل، يسقط على البيوت برميل، فتطير الأواعي وتتمزّق، ولا شيء من الأمل يتحقق، وجرت أمورنا على هذا النطاق، وأصبحت عيشتنا لا تطاق.
أحسّ أبو حمّود بالعطب، ولم يبق أمامه سوى الهرب، وصار يحكي ويترنّم، بأننا نعيش في جهنم، وباع غالبيةَ العفش، والعنزتين والجحش، وباع البيت بربع ثمنه، وقرّر مغادرة وطنه. ومن أرضه بتلك البرية، قصد الحدود التركية، وبعد تعبٍ وتعتير، ونومِ أرضٍ بلا حصير، وبينما اللاجئون نيام، والثلج يهطل على الخيام، والريح تهب بالعرض، والماء يجري على الأرض، قرّر أبو حمّود الامتثال، ودفعِ قسمٍ من المال، لمهرّب ابن حلال.
وعَبر مع عائلته الحدود، تجاوزوا العقبات والسدود، ووصلوا إلى مدخل مدينةٍ، يسودها هدوء وسكينة، صادفهم منزلٌ على العظم، باللاجئين مزدحم، فكان مأواهم بين الجدران، بأغطيةٍ أحضرها الجيران، ورأس أبي حمّود يدور، مرهقاً بأهوال العبور، حتى إذا حلّ الصباح، وتوقفت الكلاب عن النباح، أيقظ زوجته والأولاد، ليشاورهم بالأمر المُراد، فأثار الأمر انتباههم، وضحكوا ملء أفواههم، وقال الأكبر حمّود، أنا ذاهب ولن أعود، وتبعه إخوته الآخرون، البنات منهم والبنون، يريدون الذهاب إلى مكانٍ، لا يُظلم فيه إنسان، وتُحفظ حقوق الكلب، وليس في القاموس ضرب. وأنت، يا أبا حمود، المتجاوز كل الحدود، لا ترمقني بطرف عينك، هذا فراق بيني وبينك.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...