المقالح ضمير اليمن الثقافي... وداعاً
لم يكن عبد العزيز المقالح مجرّد شاعر وأديب وأكاديمي ومفكّر يمني فحسب، بل واحد من القامات الشعرية والفكرية والأدبية والثقافية العربية الكبيرة، على امتداد جغرافيا الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، واحد ممن تركوا بصماتهم الخالدة على عقود مضت، حيث ظلّ حديث المحافل الأدبية والفكرية والثقافية والأكاديمية العربية.
لم يدوّن عبد العزيز المقالح (1937 – 2022) اسمَه في سجل الخلود الأدبي، شعراً ونثراً، بغزارة إنتاجه فحسب، وإنما برسالية المثقف التي جسّدها واقعاً على أحسن مثال صورة للمثقف الحقيقي، المثقف الرسالي الذي لم يعتزل الناس وينأ بنفسه عن مشكلاتهم وهمومهم، بل كان في مقدمة الصفوف باكراً، مناضلاً في صفوف الحركة الوطنية اليمنية، أصغر فتيانها سناً. وقد أكسبه حضوره المبكر هذا، في المشهد النضالي اليمني، كلّ هذا الألق الذي حافظ على ذاته به، عقوداً، ظلّ محافظاً على ذاته وروحه من الذوبان في أبراج المثقفين العاجية، أو ردهات السلطة وبريقها، بل ظلّ مُمسكاً بقلمه في محراب الأكاديميا والبحث العلمي، واقفاً عقوداً على أهم مداميك العلم والتنوير في اليمن.
حضر المقالح في عالم الأكاديميا مدرّساً للأدب والنقد في جامعة صنعاء وصاحب نتاج نقدي أدبي كبير
لقد قدّم المقالح الكثير من وقته وجهده لليمن، وللغة العربية ومجامعها اللغوية وجامعاتها، ولم يستنكف عن أداء دوره مثقفاً عليه مسؤولية كبيرة غير تلك المسوؤلية الوظيفية التي اعتلاها فترة طويلة من عمره رئيساً لأهم الجامعات في اليمن وأكبرها، جامعة صنعاء التي تسلّم رئاستها عام 1982 حتى عام 2001، إلى جانب رئاسة مجمع اللغة العربية اليمني، وكذلك توليه رئاسة مركز الدراسات والبحوث اليمني، الذي يمثل ذاكرة للوطنية اليمنية وأرشيف سرديتها الجمهورية والثقافية والفكرية.
ومع كل هذه الانشغالات، ظلّ المقالح حاضراً في عالم الشعر والأدب والمحافل الثقافية العربية واليمنية على الدوام، ما جعله في مصاف الشعراء والأدباء الكبار كأمل دنقل والسياب ومحمود درويش ونزار قباني وسعدي يوسف وأدونيس وصلاح عبد الصبور وغيرهم. وبهذا المستوى نفسه من الحضور، حضر المقالح في عالم الأكاديميا مدرّساً للأدب والنقد في جامعة صنعاء وصاحب نتاج نقدي أدبي كبير. وأحال المقالح صنعاء إلى منتدى أدبي عربي مفتوح دائم الانعقاد طوال ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، حيث كانت تُقام المنتديات الشعرية والثقافية والأدبية العربية كل عام، ودعا إليها كل النقاد والشعراء والمفكّرين العرب، الذين عرفوا صنعاء واليمن من خلال نافذة عبد العزيز المقالح، الذي كان كتلة من نشاط وكرم وعطاء فكري وثقافي لا ينفد.
وبفضله، ظلت جامعة صنعاء تستقطب أمهر القامات الأكاديمية العربية في مختلف التخصّصات، كانوا يفضّلون اليمن وجامعة صنعاء، على بلدان أخرى كثيرة، رغم فوارق المردود المالي بين جامعة صنعاء وغيرها من الجامعات، وما ذلك إلا حباً وتقديرا لهذه القامة الفكرية والأكاديمية الفذّة، عبد العزيز المقالح، الذي تحوّل مزارا دائما ومحبّباً للنخبة الثقافية العربية.
حافظ المقالح على شخصيته مثقفا عابرا للأيديولوجيات، مترفعاً عن مفاسد السلطة ومغانمها، ومع ذلك أدار علاقته بالسلطة بأعلى درجات الحذر والاقتدار
كان المقالح يتمتع بكاريزما عجيبة، شخصية المثقف الهادئ المعجون بالعمل والإنجاز، كان لا يكل ولا يمل من العمل والإنجاز اليومي في مكتبيه في رئاسة جامعة صنعاء ومركز الدراسات والبحوث اليمني، الذي كان مزارا دائما للباحثين والمهتمين وأصحاب الحاجات لتوصية أو تزكية أو توجيه أو نصيحة. ما أسر الناس فيه، ليس شخص الأديب فحسب، بل الإنسان، الذي لم يتغير ولم يتبدل، وظل بسيطا يتواصل مع الجميع. لم يكن ذلك المثقف الحالم الهائم في أحلام المثقفين التنظيرية، وإنما المثقف الذي يعيش في أوساط الناس ويعلّمهم ويلهمهم النجاح والإنجاز والعطاء والاجتهاد والبحث الدائم عن العلم والإبداع والحقيقة والتميّز.
ترك المقالح 18 ديوانا شعرياً. وحضر ناقدا ومؤرّخا وسياسياً، وترك كتبا مهمة في هذا كله، في مقدمتها رسالته للدكتوراة عن شعر العامية في اليمن، والمضامين الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن، عدا عن مؤلّفاته الفكرية، مثل "قراءة في كتب الزيدية والمعتزلة"، وكذلك "ناصر واليمن" وكتابه الأشهر أيضا "عمالقة عند مطلع القرن"، وقدّم فيه قراءاته لأعمال وشخصيات فكرية وأدبية عربية وإسهاماتهم أيضا في الأدب والنقد والشعر العربي.
ليست هذه المقالة بصدد الحديث عن مكتبة المقالح وما تركه من ثروة علمية وأدبية وشعرية كبيرة، فهي الكفيلة بتخليده، وإنما التساؤل عن كيف استطاع أن يجمع بين حياتين متناقضتين، الحياة العملية مسؤولا لإدارة واحدة من أكبر الجامعات اليمنية، ومحاضراً دائماً فيها وفي غيرها، عدا عن كل هذا الكم الفكري والأدبي والشعري. لا شيء يمكن أن يخبرنا عن سر كل هذا الإبداع والحضور والتجلي سوى شخصية المقالح، المثقف الحقيقي والمتصوّف والمتحد بهموم الناس وبالعلم والإنجاز، بالمقالح المتلئ حباً للناس، هذا هو السرّ الذي يجعلك تعطي فوق قدرتك وطاقتك المحدودة كإنسان. وهذا هو السر الذي أوجد كل هذا الحضور المترامي لشخصية المقالح في نفوس اليمنيين وغيرهم، بمختلف مدارسهم وأحزابهم وتياراتهم ومذاهبهم، هذا الحضور الباذخ بالحب والقبول الذي يرى في المقالح نموذجا للمثقف الحقيقي، الذي لم تغره السلطة ولا الشهرة ولا المكانة، الحضور الممتدّ على امتداد جغرافيا العرب الكبيرة.
لم تتجسّد شخصية المثقف الحقيقي في الحالة اليمنية كما فعلت شخصية عبد العزيز المقالح
لقد حافظ على شخصيته مثقفا عابرا للأيديولوجيات، مترفعاً عن مفاسد السلطة ومغانمها، ومع ذلك أدار علاقته بالسلطة بأعلى درجات الحذر والاقتدار، فلم ينخرط في جوقتها ولم يصادمها، وظلّ يدير علاقة من نوع آخر تحافظ على مسافة للحضور بين السلطة ومعارضيها، بحيث يبقى بمثابة جسر تواصل بين الحالة الإبداعية والناس وبين هذه السلطة التي كانت تعمل على توتير علاقتها بالنخب المثقّفة، حتى تبني سردية أمنية على خلفية أزمةٍ أمنيةٍ تختلقها السلطة مع المثقف والمثقفين عموماً. ولهذا ظلّ المقالح حاضراً في ضمير الناس ووجدانهم، يحظى بكلّ أجناس الاحترام والتقدير، ممسكاً بخيط البقاء في أوساط الناس وقضاء حوائجهم، ولم يعزل ذاته ونفسه داخل قفص النخبوية والأهمية المتوهمة والمزعومة، بل ظلّ حاضراً كإنسان في متناول كل صاحب حاجة، ولم يختلق حول نفسه تلك الهالة الطاووسية التي يشيعها حول أنفسهم بعض الممتلئين بكل شيء إلّا الثقافة والمعرفة.
رحم الله المقالح، الرمز الجمهوري الكبير، وأحد أعمدة الإبداع اليمني والعربي ككل، وكم كنا نتمنّى أن تُعلن حالة الحداد وتنكّس الأعلام بوفاته، وأن ينصب له تمثال كبير في أهم ميادين المدن اليمنية المحرّرة، كتعز وعدن وحضرموت، فالرجل ترك تراثاً فكرياً وثقافياً وأدبياً كبيراً، عدا عن عشرات آلاف الخرّيجين الذين مروا على يديه في جامعة صنعاء، وكلّ هؤلاء كانوا من حسنات المقالح الكثيرة.
ختاماً، ربما لم تتجسّد شخصية المثقف الحقيقي في الحالة اليمنية كما فعلت شخصية عبد العزيز المقالح، هذا التجسيد الذي تمثل بهذا الإجماع الكبير على مكانته، ودوره وأثره في الحياة العامة اليمنية والعربية، واحداً من أهل الحداثة والتنوير. هو هامة عصيّة على الغياب والنسيان، ومن القامات الكبيرة التي تتحوّل إلى أيقونة خالدة في ضمائر الشعوب والأمم، وتظل تلهم الأجيال وترشد السائرين على دروب الحرية والكرامة.