المغرب وإسبانيا ... المصالح أولاً
نجحت القمة المغربية الإسبانية، التي عُقدت في الرباط منتصف الأسبوع الفائت، في التقدّم خطوة أخرى على درب تبديد مخلفات الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة التي شهدتها العلاقات بين البلدين إبّان السنتين المنصرمتين، والتي بلغت أوجها، في أبريل/ نيسان 2021، بعد دخول زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية، إبراهيم غالي، إلى التراب الإسباني بحواز سفر مزوّر من أجل الاستشفاء.
لكن، على الرغم من أجواء الارتياح التي سادت الرباط ومدريد بعد هذه القمّة، إلا أن هناك ملفات خلافية لا تزال عالقة بين البلدين، في مقدّمتها ملف مدينتي سبتة ومليلية اللتين تحتلهما إسبانيا. وفي هذا الصدد، كان دالّاً ما قاله رئيسا الحكومتين في افتتاح أشغال القمة، ففي وقتٍ عبر عزيز أخنوش عن ''ارتياح المغرب للتغيير الذي شهده موقف إسبانيا بشأن قضية الصحراء بتأييدها مبادرة الحكم الذاتي التي قدمتها الرباط في 2007''، قال بيدرو سانشيز إن بلاده "حريصة على تجنّب كل ما من شأنه أن يسيء إلى المغرب، لا سيما فيما له صلة بالسيادة والشؤون الداخلية''. لا يحتاج المرء إلى قدرٍ من النباهة ليقف على مدلول الرسالة التي توخّى رئيس الحكومة الإسبانية إيصالها؛ فإذا كانت مدريد قد راجعت موقفها بشأن السيادة المغربية على الصحراء، فالمطلوب، من منظورها، أن يراجع المغرب موقفه بشأن ''السيادة الإسبانية'' على سبتة ومليلية بأن يكُفَّ عن المطالبة باسترجاعهما. ويمكن تفسيرُ التريثُ الذي أبدته الرباط، بشأن اعتزام مدريد تحويل المدينتين إلى مركزيْن جمركييْن رسمييْن للتصدير والاستيراد بين البلدين، بأنه محاولة لكسب بعض الوقت قبل اتخاذ أي خطوة قد يكون لها ما بعدها.
يُدرك البلدان أن ملف المدينتين لا يزال رقماً أساسياً في معادلة جوارهما الذي يزداد تعقيداً في ضوء المتغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم، فالمغرب، وإن كان حريصاً على عدم الدفع بهذا الملف إلى رأس أولويات سياسته الخارجية، بسبب ما تفرضه قضية الصحراء من إكراهات، إلا أنه يعي جيداً أهميته بالنسبة لوطنيةٍ مغربيةٍ يبقى استكمالُ الوحدة الترابية للبلاد بالنسبة لها مصيرياً. ولعل ذلك ما يجعل مقاربته تتسم بقدر من التوازن بعد الاعتراف الإسباني بمغربية الصحراء، لأنه يعرف أن الإسبان يتطلّعون إلى مقابلٍ استراتيجي لقاء ذلك، خصوصاً بعد نجاح الدولة العميقة في إسبانيا في تحييد قوى يمينية ويسارية عارضت هذا الاعتراف، ورفضت التحوّل الذي طرأ على رؤية مدريد لمحيطها الجيوسياسي بقبولها تحويل ''القضية الصحراوية'' إلى مشكلة مغربية بحتة.
في المقابل، تبدو إسبانيا وكأنها تقبل إعادة توزيع محدود للنفوذ في المنطقة، بما يسمح لها بحماية حدودها الجنوبية من مخاطر الهجرة السرّية والإرهاب العابر للحدود، باعتبارها تحدّيات مصيرية في إدارة أمنها القومي الإسباني وصياغة أولوياته.
وحسب تقرير أصدره المعهد الملكي ''إلكانو''، الشهر الماضي (يناير/ كانون الأول)، تحت عنوان ''إسبانيا والعالم في 2023: آفاق وتحدّيات''، ''.. على شركاء إسبانيا في الاتحاد الأوروبي أن يدركوا أن التحدّيات التي تواجه أوروبا تتركز في مضيق جبل طارق (...). كما أن استلام إسبانيا الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، منتصف السنة الجارية، سيتيح لها الفرصة للتأثير على الأجندة المتوسطية للاتحاد (...) الذي يبدو أكثر انشغالاً بإدارة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على حدوده الشرقية''.
يعي المغرب وإسبانيا أهمية ما يجمعهما من مصالح مشتركة أضحت منظومة متكاملة تتداخل فيها حساباتٌ كثيرة. كما يعِيان أن توسيع مساحة التوافق بشأن قضايا الأمن والهجرة والاقتصاد يجعل الكلفة السياسية والاقتصادية لأي مواجهةٍ محتملةٍ بين البلدين مرتفعةً، ما يعني حاجتهما الدائمة لتغذية الاعتماد المتبادل القائم على أولوية هذه المصالح على ما عداها من قضايا تظلّ مثار خلافٍ بينهما.
تعكس حزمة مذكّرات التفاهم التي وقعها رئيسا الحكومتين، المغربية والإسبانية، في قطاعات حيوية، بحجم الأمن والهجرة والاقتصاد والطاقة والتعليم والثقافة وغيرها، الأهميةَ القصوى للمصالح التي تجمع البلدين. بيد أن ذلك لا ينفي أن هناك ملفّات خلافية ستبقى ملقية بظلالها على جوارهما الذي تزداد حساباته تعقيداً.