المغرب على الحافّة

17 سبتمبر 2023
+ الخط -

كأن الحزن مغربيّا هذا المساء، مثل ما كان الفرح مغربيًّا قبل حفنة أشهر، فهل وحدَه المغرب من يملك ذلك المزيج المتنافر من المشاعر التي ينبغي التآلف معها بين طرفة عين وانتباهتها؟ كان أمس فتحًا كرويًّا وحّد المشاعر العربية على قلب فريق واحد، واليوم كان ارتدادًا زلزاليًّا وحّد البكاء العربي على دمعة يتيم واحد، وما بين هذا وذاك رقصتان؛ واحدة للفرح وأخرى للترح.

هو بلد على الحافّة دائمًا، ومن يعرف الحافّة في وسعه أن يفهم مفتاح الشخصية المغربية جيدًا، فأن تقطن الحوافّ يعني أن دمعتك على حافّة جفنك، وبهجتك على حافّة قلبك، وأنك على حافّة الزلزال والكوارث، وأنك امرؤ لا تؤمن بمقولة "القناعة كنز لا يفنى"، فالحافّة تتيح لك مدى بصريًّا يدعوك إلى المجازفة والمغامرة، وإن لم تفعل فسيجازف الآخرون باقتحامك.

وأن تكون على الحافّة يعني أن تطارد حلمك حتى آخره، وأن تحرق سفنك كلها إن لزم الأمر، وهذا عين ما فعله طارق بن زياد عندما رأى الأندلس من الحافّة المغربية فجازف بكلّ شيء، ومنها انطلق عبد الرحمن الداخل ليصنع إمبراطورية، مجددًا حلمًا كان يتهشّم في دمشق. كلاهما كان يعرف أن فاتحة الحلم الأولى تبدأ من خاتمة الوطن العربي... من تلك الحافّة التي لا يصلح معها غير القفز المتوالي بلا أي لحظة لاستراحة محارب أو عاشق... بمثل هذه الاستراتيجية كانت الأندلس، وعلى نقيضها ضاعت الأندلس.

ولئن كان العربُ لا يعرفون خطر الحوافّ، فالغرب يعرفه جيدًا، فهو لم يسمح للمغرب بفرص التقاط الأنفاس منذ رحيل آخر مقاتل عربي عن الأندلس، بذرائع شتّى، منها حقّ السيادة على جزر محيطة بالمغرب، ومنها الحفاظ على حرية الملاحة في جبل طارق، وبعضها إشغالها بحرب الصحراء مع جيرانها. والفاتورة ستظلّ مفتوحة غير قابلة للسداد ما دام تبقّى عربيٌّ واحد يحمل جينات طارق بن زياد، وربما يكون الغرب نفسُه أسعد الناس بمثل هذه الزلازل التي يعدّها حليفًا "استراتيجيًّا" تكفيه شطرًا من أهدافه الماكرة.

وعلى الحافّة ذاتها، عاد عبدالله الصغير باكيًا "ملكًا مضاعًا" جرّاء "الهزّة الارتدادية" التي لم تبدأ إلا عندما أغفل الخلف حلم السلف، ما يجعلني موقنًا أن ما يصيب المغرب ليست زلازل بقدر ما هي "ارتداداتٌ" لزلازل أخرى، مركزها ربما في بقعة أخرى من الوطن العربي، وعلينا أن نفتش حينها عن حلم عربيّ قديم لم يعد يحتمل التشبّث بالحافّة أزيد مما فعل.

ويا لكثرة أحلامنا المنهارة جرّاء "الارتدادات". وأكاد أزعم إن منها ما يفوق الزلزال نفسه، لا سيما إذا أفضت الارتدادات إلى "ردّة" على الثوابت والمبادئ، ردّة جعلت طارق بن زياد "معتديًا"، ومحمود عبّاس "فاتحًا"، وجعلت من إسرائيل حليفًا، ومن "حماس" عدوًّا.. ردّة تجعل من قصف دمشق اليوميّ بالقذائف الصهيونية حدثًا عابرًا، ومن افتتاح سفارة جديدة لإسرائيل في عاصمة عربية "فتحًا" يبعث على الاحتفاء.

كلها زلازل تجد ارتداداتها في أسواق المغرب العابقة برائحة العطور والتوابل التي لم تقوَ على حجب رائحة الموت الذي رافق الزلزال، ولا التمائم والتعاويذ التي تستهوي المغاربة استطاعت أن تحصّن البلاد من شرّ هذه الكارثة المستطيرة، ربما لحكمةٍ ما، تُبطن رسالةً بأن المقصود ليس المغرب بلدًا وجغرافيا، بل لأنه الأقدر على تذكير الأمة بأفول شمسها، وضلال سعيها ما لم تستعد فلسفة الحافّة مجددًا، فمن الحوافّ فقط يبدأ الفتح الجديد، ومن حيث يشعر المرء أن النهاية باتت وشيكة تسطع البداية.. ومن غير جبل طارق يمكنه أن يذكرنا بأن سفن الفرّ التي راهنّا عليها في الموانئ الخلفية قد احترقت منذ زمن طويل، ولم يبق لنا غير الكرّ طريقًا ومصيرًا.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.