المطلوب من المتفاعلين مع حرب الإبادة

22 ديسمبر 2023
+ الخط -

ثمّة من يعتبرها نقمةَ ولعنةً، وآخرون يعتبرونها هبةً ونعمة، والمعيار في ذلك وجهة نظر كلٍ من الطرفين لما تقدّمه وسائل التواصل الاجتماعي من مساحات للتعبير والفعل والتأثير. ترى الأنظمة السلطوية، وأخيرا، بعد حرب غزّة، بعض السياسيين الغربيين، أنّ المنصّات التي فَتحت لعامّة الناس أبواب المشاركة في صناعة الحاضر والمستقبل قد أخذت منها ومنهم أهمّ أساليب احتكار المعلومة، وبالتالي، حدّت كثيرًا من قدرتهم على توجّه هؤلاء المحكومين على نحو ما كان يجري قبل عقود قليلة. في المقابل، ترى فئات واسعة من البشر أنّ التطوّر التكنولوجي فتح أمامهم أبوابًا واسعة كانت على الدوام موصدَة، وبعد أن كانت مساحات معرفتهم الأحداث لحظة وقوعها أو خلال فترات قريبة نسبيًا محصورة بما يمكن أن تسرّبه الصحافة، التي كانت هي ذاتها تعتمد السياسات العامة المرسومة، وبعد أن كان اعتماد الناس على جرأة الصحافيين وتمرّدهم على مجموعة الضوابط المحدّدة، بات الآن كلّ واحد منهم صحافيًا أو إعلاميًا، وبالأحرى ناقلًا الخبر بتواضع المصطلحات واحترام المهنتين.
قياس مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الشأن العام صعبٌ للغاية، فهو يخضع لعديدِ اعتباراتٍ، هي بحد ذاتها متغيّرة وغير قابلة للقياس، فالثقة بصحّة المعلومة، وتدقيق مصدرها، وعدم القدرة على تجنّب الخلط بين الحقائق وانطباع الناقلين عنها وانحيازاتهم الأيديولوجية أو العاطفية تجاهها، وعدم القدرة على فصل ذلك كله عن أحكام القيمة التي غالبًا ما تتضمّنها عمليات النقل هذه، كلها عناصر غير مضبوطة، ولا يمكن التحكّم بها. تُضاف إلى ذلك أيضًا عمليات الاستعراض الرائجة لحصد الإعجابات أو استمالة مشاعر الجمهور المستهدف، وكذلك عمليات التضخيم والمبالغة في حجم الحدث، أو التقليل من شأنه أو تصغيره أو حتى تحقيره، أو عمليات التوجيه المقصود للتضليل وبثّ الإشاعة، كلها تدخل في محصّلة التقييم النهائي لنتائج تأثير هذه الوسائط.

أخذت الأيديولوجيا طريقها إلى جانب المصالح في تحديد تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي

تدخل أيضًا في الحسبان تلك العوامل غير المُدركة وغير المباشرة، والتي تتحكّم بسلوك مجموعاتٍ بشريةٍ محدّدةٍ في تفاعلها مع الأحداث، حتى باتت ظاهرة التأطير ضمن نسقٍ معيّنٍ معروفةٍ ضمن أوساط الجمهور الذي يستخدم تلك الوسائط. التأكيد على الانتماء للجماعة أو المجموعة بتبنّي خطابٍ يدافع عنها، ويرسم حدودها ويقاتل من أجلها، أو على العكس نفي الانتماء لجماعة أو مجموعة ما ومحاربة كل ما يصدُر عنها، صحيحًا كان أم باطلًا، باتت كلها قضايا ملحوظة جدًا. مثال ذلك حالات الاصطفاف مع ثورات الربيع العربي وضدها، وحالات الاستقطاب حاليا مع الفلسطينيين والقضية الفلسطينية وضدها.
أخذت الأيديولوجيا طريقها إلى جانب المصالح في تحديد تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، ثمّة نقمةٌ متزايدة لدى الساسة الغربيين على تطبيق TikTok، الصيني، فقد حظر الاتحاد الأوروبي على جميع موظفي الدولة تحميل هذا التطبيق بعد حرب أوكرانيا بحجّة الاختراق المحتمل للحكومة الصينية لحساباتهم. كذلك كان لهذا التطبيق نصيبٌ من هجوم الساسة الأميركيين، فقد كسر طوقهم المضروب على وسائل التواصل ذات المنشأ الغربي، وبالتالي، حطّم أسوار احتكار المعلومات، خصوصا بعد الحرب الوحشيّة على غزّة وأهلها. وهنا يجد المراقب كيف كانت وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها نقمة ونعمة في الوقت نفسه، بالنسبة للتفاعل مع الحدث المأساوي في فلسطين، فهي كانت متنفّسًا للناس وسبيلًا للتعبير عن غضبهم وتعاطفهم ومؤازرتهم، وفي الوقت ذاته، كانت بديلًا عن النزول إلى الشوارع للاحتجاج والتظاهر للضغط على الحكّام لتبديل مواقفهم.

معركة تغيير الرأي العام العالمي وإعادة البوصلة الإنسانية إلى مدارها الصحيح لا حدود لها

قد يكون من المهمّ ملاحظة النكبة التي تعرّضت لها الشعوب العربية على يد الحكّام بعد ثورات الربيع العربي، فأنظمة تلاحق الناس على ما يكتبونه في صفحاتهم الشخصية في "تويتر" أو "فيسبوك"، وتنزل بهم عقوبات مغلّظة، لن تتورّع عن سحلهم في الشوارع إن هم نزلوا إليها للتضامن مع أهلهم في قطاع غزّة والضفة الغربية. قد تكون عمليات تغطية جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي أتت بمفعولٍ عكسي على الناس، فباتت الخشية من مصيرٍ مماثلٍ هاجسًا لكثيرين، ويبدو أنّ العملية ذاتها كان يُقصد منها هذا الأمر، أي بثّ الرعب في نفوس الناس العاديين، فما دام ما يحلّ بالمشاهير ما رآه العالم كلّه، فإنّ ما سيحصل لهم لن يلحظه أحد.
هذا كلّه لا يبرر لنا بأي حال التقاعس عن القيام بكل جهدٍ ممكن لوقف حرب الإبادة الجماعية هذه، فليس كل النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي لهم تأثير باسم يوسف أو غيره من المشاهير، وبالتالي، لا يمكن الاكتفاء بالاحتجاج والمناصرة عبر المنشورات في "فيسبوك" و"إنستغرام" إن كانت متاحة أصلًا، أو عبر التغريدات في "تويتر" وغيره، بل يجب النزول إلى الساحات والشوارع في كل البلدان التي تسمح قوانينها والظروف السياسية فيها بذلك. هذه لندن وتلك باريس وهاتيك برشلونة مدنٌ تعطي مثالًا عمّا يمكن للناس القيام به إن هم أرادوا. معركة تغيير الرأي العام العالمي وإعادة البوصلة الإنسانية إلى مدارها الصحيح لا حدود لها، والضغط لوقف القتل الهمجي والتدمير الممنهج لمدن وقرى بأكملها، وإبادةُ عائلاتٍ وأسرَ ومحو أثرها من السجلات المدنية، هي أكثر من مُلحّة وواجبة، وهذه لا يمكن إنجازها عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط، رغم أهميتها، ثمّة الكثير لنفعله بهذا الخصوص. الوقت من لحمٍ ودمٍ ومعاناةٍ لا توصف، فجرّافات جيش الاحتلال لم تُبقِ حتى على المقابر، واستكثرت على الموتى أن تمكث جثامينهم بسكينة حتى يوم النشور، فهل من فعلٍ أو ردّة فعلٍ حول ما يجري؟ علّ وعسى!

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود