المشتاقون للحرب في لبنان

14 ابريل 2021
+ الخط -

أحد مظاهر ذاكرة السمكة في لبنان، يمكن رصده عند الاستماع إلى ما يقوله طيف ليس بقليل من ناسه عن الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، والخفّة التي يتعاطى بها بعضهم مع ذكراها التي تحل في 13 إبريل/ نيسان من كل عام. منذ توقّف القتل على الهوية والتقسيم وحروب الأعداء والأشقاء والطوائف والأجانب، تتردّد عبارات مبتذلة يستسهل كثيرون تكرارها بمواهب شعبوية على التلفزيون وفي المقالات والدكاكين والمنازل، وطبعاً على جدران مواقع التواصل الاجتماعي. الناس غير المسيسين يقولونها بمنطق مبسّط، أي بدائي، لا تكلّف فيه: الحرب كانت أسهل مما عشناه بعدها، أو رحم الله أيام الحرب، كانت فيها بحبوحة اقتصادية. بعض السياسيين والإعلاميين بدورهم، يفذلكون العبارة: نحن نعيش استمراراً للحرب بوسائل أخرى، أو ببساطة: الحرب لم تنتهِ عام 1990. والعبارات هذه التي تُطلق بعاديّة استثنائية، كأنها بديهية لا تحتاج إلى نقاش أصلاً، عمرها من عمر انتهاء الحرب، ولا دخل لها بحقبة الانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان منذ خريف 2019. لكن منذ بدأ السقوط الحر، صار تردادها بمثابة إلقاء التحية في الشارع، حتى أن النظرية الفذّة تلك راحت تتطور لتأخذ شكل أمنيات بعودة القتال، على اعتبار أن اقتصاد الحروب دسم ويأتي بالأموال وبانتباه العالم. عند هؤلاء، الحل للمصيبة السياسية ــ الاقتصادية ــ الاجتماعية التي يعيشها لبنان، قد يأتي بالحرب أو عبرها، وكأن كل من ينطق بالفلسفة تلك يتصور أنه سيكون أحد تجار الحرب المحظوظين الذين تنحصر بهم وبالمحيطين بهم ثروات اقتصاد الحروب.

بعض الشباب ممن لم يعرف "بحبوحة الحرب" التي يخبرنا عنها هؤلاء، يردد العبارات المستفزة تلك بشكل يؤكد عمق الأزمة في هذا البلد، وبما يثبت يقيناً أن عملاً ضخماً يفترض القيام به في المدارس ومراكز العلاج النفسي وفي السياسة والجامعات والأحزاب وهيئات المجتمع المدني حيال هؤلاء الذين لا تنطبق عليهم فرضية ذاكرة السمكة، بل العمى والجهل التام بمعنى الحرب التي يفترض أنهم يشاهدون كل يوم عينات قريبة وبعيدة عنها. أما ذاكرة السمكة لدى الذين عاشوا الحرب وتسمعهم يثرثرون يومياً عن كيف أنها أفضل بما لا يُقاس مقارنة مع حاضر اللبنانيين، فإنما علاجها ربما يكون بالصعوبة نفسها لإقناع أحدهم بأن الأرض كروية لا مسطحة.

لم يعد هناك فارق كبير بين هؤلاء الذين يشتاقون للحرب لأسباب عقائدية سياسية، وأولئك الذين يتوهمون أن القصف والدبابات والذبح والتهجير هي علاجات اقتصادية سحرية للوقاية من السقوط في القاع. تكفي زيارة قصيرة إلى لبنان هذه الأيام لكي يلاحظ مرتكبها الحيّز الذي صارت تحتله ثرثرات الحرب في يوميات السكان. في هذا الحيّز يمكن العثور كذلك على أجوبة لأسئلة كثيرة. لماذا فشلت انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في إنتاج أحزاب وتنظيمات وحالات سياسية جديدة ذات تمثيل اجتماعي حقيقي من شأنه إزاحة بالتدرج للطبقة السياسية الطائفية المسؤولة عن الخراب الكبير؟ لماذا بقي معظم أمراء حرب الـ15 عاماً حكاماً بعد 31 عاماً على صمت المدافع؟ لماذا نُبذت أحزاب أجرت نقداً ذاتياً لتجربتها في الحرب بينما تصعد شعبية من يتباهى بأنه لم يخطئ في أي تفصيل يتعلق بسجله العسكري؟

ربما يكون أتباع حِكمة "أي شيء إلا الحرب" هم الغالبية فعلاً في لبنان، وجماعة "حبيبتي الحرب" هم الأقلية، لكن كل من الغالبية والأقلية يعرفون تماماً أن إشعال الحرب لا يحتاج إلا لحفنة من المجانين. لحسن الحظ، هناك حسنات لغياب الاهتمام العالمي عن لبنان، كذلك تجد أفضالاً للأزمة الاقتصادية العالمية. لا أحد في باله تمويل حرب هنا، ولا موازنات فائضة لتحقيق أحلام أصحاب الذاكرة السمكية والمصابين بالعمى الجُرمي.

أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".