المسّ برأس المال الرمزي الفلسطيني
لا ينافس رأس المال الثقافي الفلسطيني، المشهود له بالثراء والحيوية والتميز، ولا يُزاحمه على مركز الصدارة، من حيث الحجم والنوع، الكم والكيف، سوى صندوق رأس المال الرمزي، الذي أقامه شعبٌ اقتلعته النكبة الأولى، وذلك لصيانة الذاكرة من التبديد، حفظ الرواية من النسء، وترميم الوعي من الاستلاب. ثم راحت النخب من أجياله اللاحقة تراكم في خزائن هذا الصندوق الافتراضي كل ما تبقى لها من صور ومرويات وفنون وتراث، وغير ذلك مما يعزّز الانتماء لوطنٍ مسلوب، والبقاء والصمود في وجه محاولات الشطب والإلغاء.
في وقت لاحق، عندما انتقل الفلسطينيون، على جناح ثورتهم المعاصرة، من رحاب التاريخ إلى فضاء الجغرافيا الطبيعية، أي إلى خريطة الوجود السياسي، بعد طول تجاهل وتغييب، شرعوا في إحياء موارد رأس مالهم الرمزي، وتنميتها بكفاءة واقتدار. بعثوا الأوابد، وأخذوا يصنعون أيقوناتهم الخاصة، ويبنون عبر نضالاتهم، متعدّدة الأشكال، صرحاً شامخاً من الرمزيات المحفّزة على الفخر والاعتداد بالنفس، المعزّزة للأمل بالخلاص، ومواصلة مسار الكفاح، لانتزاع حقهم المشروع في الحرية والاستقلال، بما في ذك بعث الهوية، العلم والنشيد، ناهيك عن تفعيل المؤسسة التمثيلية، وفتح البعثات الدبلوماسية، وما إلى ذلك من أساسات تحتية ذات دلالات كيانية، تخاطب هدف إقامة دولة فلسطينية حرّة وديمقراطية.
وليس من شك في أن الكوفية، وتُسمّى "الحطّة" في الموروث الشعبي، أسهمت مساهمة معتبرةً في تكوين رأس المال الرمزي الفلسطيني وإغنائه، حيث صارت، في وقت مبكر من عمر الثورة، تشكّل دلالة باذخة على تبلور الهوية النضالية، وذلك منذ تلثّم بها الفدائيون الأوائل، إبّان مرحلة العمل السري وعهد القواعد، خصوصا عندما اعتمرها الرئيس الراحل أبو عمار في كل مقابلاته وزياراته العربية والدولية، ثم دخل بها، وسط تصفيق حار إلى منبر الأمم المتحدة عام 1974، في إشارة حاسمة، منذ ذلك المشهد الاستثنائي، على أن غطاء الرأس هذا أصبح، على نحو ما كان عليه الحال خلال ثورة عام 1936، من مكونات الثورة، لازمةً من لزوميات تحقيق الهوية الوطنية، إن لم نقل واحداً من عناوينها البارزة، سيما عندما تطوّرت الكوفية إلى وشاحٍ تعلّقه الشبيبة على الأكتاف، وتم إدخالها على تصاميم الأزياء التراثية.
مناسبة الحديث عن رأس المال الرمزي وبعض مكوّناته، بما في ذلك الكوفية على وجه الخصوص، أملتها واقعة، ليست هي الأولى، لكن يبدو أنها الأشد صخباً من سابقاتها، ونعني بها واقعة قمع ومطاردة جرت ضد طلاب من إحدى الجامعات في غزّة، حين نزع نفر من المتعصبين ورجال الأمن الكوفيات عن أكتاف طلابٍ آخرين، وتمزيقها على رؤوس الأشهاد، ثم ضرب الطلاب بفظاظة، وسوقهم إلى مراكز التحقيق، بجريرة اقتراف هذه الفعلة الشنيعة، الأمر الذي قوبل بالتنديد العلني من رئاسة الجامعة، واستنكار ثلة واسعة من المثقفين، في القطاع وخارجه.
ليس في هذه المقاربة تصيّد لخطأ نادر الحدوث في غزّة، أو تربص بسلطة الأمر الواقع في القطاع المحاصر، لكن السؤال الذي لم يبرح عقول (وقلوب) من استهجنوا المسّ برأس المال الرمزي الفلسطيني هو: هل الذين اعتبروا انقلابهم قبل 14 سنة حدثا لا يقل أهمية عن فتح مكّة كانوا يعتقدون أن الكوفية تخصّ كفار قريش، أو أنها كانت من ممتلكات أبو سفيان مثلاُ؟ وهل من شأن حظر الكوفية في الرقعة الممتدة بين رفح وبيت حانون أن يفكّ الحصار الظالم، أو يُحسّن إمدادات الكهرباء والغذاء؟ وكيف يفعل بعض الشركاء في المسيرة والمصير ما لم يفعله الأعداء ضد مرتدي الكوفية خلال مظاهرات المواطنين العرب التضامنية أخيرا، في حيفا وأم الفحم والناصرة؟
والحق أن الكوفية التي اعتمرها عبد القادر الحسيني في معركة القسطل عام 1948، تيمناً بثورة ال 36، أمر لا يخص السلطة أو "فتح" أو منظمة التحرير، ولا هي راية حزبية صفراء أو حمراء، أو شعارٌ لفصيل منافس على الشرعية والتمثيل والسلطة، بل هي شأن عام، أو قل ملكية على الشيوع، تخصّ الفلسطينيين كافة، بمن فيهم أشد المعارضين، فكيف تمر هذه الخطيئة التي لا تغتفر من دون مساءلة، حتى لا نقول من دون حساب عسير، إن لم يكن مع النفس، فعلى الأقل مع مرتكبي هذه الفعلة المستهجنة التي تعزّز مغزى حظر رفع العلم الوطني في القطاع، سوى في مسيرات فكّ الحصار المتوقفة، بعد خسارة مئات الشهداء وآلاف الجرحى من دون نتيجةٍ تذكر.