المسكوت عنه

15 أكتوبر 2022
+ الخط -

في سورية، قبل أن نضطر لمغادرتها، كان لنا عدو دائم، الاستعمار الفرنسي الذي دمغه الإعلامُ البعثي بصفة "البغيض"، حتى إن بعض الناس كانوا يظنون أن اسم الدولة التي استعمرتنا: فرنسا البغيضة.. ثم صار لنا، منذ أواسط الأربعينيات، عَدُوَّان جديدان، لم نتوقف عن هجائهما قط: إسرائيل وأميركا. الأولى احتلت أرضاً عربية، فلسطين، وهجّرت قسماً كبيراً من أبناء شعبها، وما انفكّت تنكّل بالباقين، ثم احتلت سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان.. والثانية، أميركا التي دعمت إسرائيل، وجيّشت الجيوش لتدمير العراق الشقيق.. ويوم ضربت ملجأ العامرية أقمنا مناحةً كبرى حزناً على أولئك الأبرياء الذين قتلوا..

يومَ قتلت القوات الإسرائيلية الطفل محمد الدرّة، لم يبق كاتب، أو صحافي، أو شاعر، مبتدئاً أو فطحلاً، إلا وأدلى بدلوه في هذه الجريمة الحقيرة.. وخلال الانتفاضة الفلسطينية التي عُرفت باسم "انتفاضة الحجارة"، ارتفعت حمّى تضامننا مع أطفال فلسطين، حتى صار المرء يفتح أية صحيفة سورية، فيخال أنها تحوّلت إلى مقلع حجارة! وكان من حسن حظ شعراء التفعيلة آنذاك أن كلمة "حَجَرٌ" تأتي على وزن "فَعِلُنْ"، وخذ وقتها على تلاطم الأمواج الشعر في بحر الخَبَب، المتدارَك..

كل ما جاء في وصف أولئك الأعداء صحيح. لا يستطيع أحدٌ أن يجادل في إجرام إسرائيل، سيما إذا كان الأمر يتعلق بأمنها، وكذلك أميركا عندما تقاتل خارج حدودها، ولم يزعم أحد أن فرنسا احتلتنا، بين عامي 1920 و1946، لأجل نشر قيم الثورة الفرنسية العظيمة. لكن المعضلة الأساسية في أحاديثنا تلك أنها كانت تتجنّب التنويه بجرائم نظام الأسد، ومجازره، وسجونه ومعتقلاته، وتغوّلِ أجهزته الأمنية على الدولة والمجتمع.. كنا نسكت، مع أن أي مقارنة بين إجرام نظام الأسد وإجرام أعدائنا ستكون لمصلحته، فقد قتل في مجزرة واحدة (حماة 1982 مثلاً) أكثر مما قتلت إسرائيل في صبرا وشاتيلا، مضافاً إليها ضحايا العامرية. اما مجزرة تل الزعتر، التي لم نقصر في هجاء إسرائيل بسببها، فقد كان وراءها نظام الأسد، لا سواه.

الذين ندّدوا بجرائم أميركا، في أثناء غزوها العراق مرتين (1991 و2003)، إما تغاضوا عن جرائم نظام صدّام حسين بحق الشعب العراقي، أو أنهم أجلوا الحديث عنها إلى وقت لاحق، متسلّحين بالمبدأ البعثي السوري الشهير الذي تلخصه عبارة "تريدون ديمقراطية والعدو على الأبواب؟".. والرفاق الشيوعيون انقسموا على أنفسهم، بشكل جدّي، مع ظهور مبدأي الغلاسنوست والبيريسترويكا، في عهد غورباتشوف. وصار بإمكان الرفاق ذوي النَفَس الديمقراطي الإنساني أن يتكلموا عن الملايين من أبناء الشعوب السوفييتية الذين قتلوا، في المرحلة الستالينية خصوصاً، وبقي هذا الحديث ينغّص الرفاق في الفصيل البكداشي، الذين لم يصمُدوا أمام موجة الحديث عن حقوق الإنسان، فراحوا يجادلون في الإحصائيات فقط، ويحلفون الأيْمان على أن رقم 20 مليون قتيل الذي زعمت صحيفةُ "أنباء موسكو" أن الرفيق ستالين قتلهم، كاذب، فالرجل، للأمانة، لم يقتل سوى ستة ملايين!

ما كنّا نتجنّب ذكره أن شعوب الدول الثلاث التي نناصبها العداء، فرنسا وأميركا وإسرائيل، تنعُم بالتداول السلمي للسلطة، وتدافع عن مواطنها الذي يمتلك من الحرية ما يكفي لأن يقف في ساحة عامة، أو على سطح بناية، ويسبّ على مَن يشاء من حكامها، من دون أن يؤاخذه على ذلك أحد.

بعد ثورة 2011؛ تغيّرت خريطة الأشياء "المسكوت عنها" لدى السوريين. صار سوريو الداخل يندّدون بالاحتلال التركي للشمال، والاحتلال الأميركي للشمال الشرقي، فقط، ونحن، المقيمين في تركيا، نسبّ على الاحتلالين، الروسي والإيراني، وحزب الله، والمليشيات الطائفية، بينما يوشك بعضُنا على الاختناق إذا وجد نفسَه مضطرّاً لانتقاد حركة تحرير الشام، أو جيش الإسلام، أو رئيس المجلس الإسلامي الذي قال بحق النساء السوريات كلاماً أقلّ ما يقال فيه إنه عيب، ويجب أن يُحَاكم عليه.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...