المستوطنة "الفاضلة"
يقال في المأثور الشعبي لمن يتدخّل مدافعًا عن آخر كمن يدافع عن نفسه وكأن الكلام موجّه إليه هو: "إنت مين اللي داعس على ذَنَبَك"، وذلك بغية ردعه وإسكاته. والمعروف أن الذّنَب أو "الذّيل" جزءٌ حسّاس لدى الحيوان، يثير حفيظته، وربما يُخرجه عن طوْره ويتسبّب بإغاظته إذا داسَه أحدُهم أو أمسكه.
غير أن المأثور السابق لا يصحّ معيارًا لانتقاد أنظمةٍ عربيةٍ خرجت عن طوْرها إثر العمليات الفدائية أخيرا في القدس، التي أوقعت عدداً من "الشهداء" الصهاينة (من وجهة نظر الأنظمة الخارجة عن طوْرها بالطبع)، لأن الإنصاف يقتضي أن نعترف بحقيقة أن هذه الأنظمة بلا "ذَنَب"، ومن ثمّ لا يستقيم التشبيه. هذا من جهة، ولأن تلك الأنظمة لا تدافع عن "آخرين" عندما تتنطّح للردّ على "الجرائم المقترفة بحقّ إسرائيل من الوحوش الفلسطينية"، وإنما تدافع عن نفسها أولاً، على اعتبار أنها غدَت وإسرائيل وجهين لعملة واحدة (ربما بات ضرورياً التفكير بوضع رموز سيادتها على الوجه الآخر للشيقل الإسرائيلي).
لا دموع تستحقّ الذّرف على أنظمة عربية "تمْسَحت" حرفيًّا، وهي تتقيّأ وتبتذل عبارات التعازي مع نظيرتها الإسرائيلية، واستنكار "الأعمال الإرهابية" التي يقترفها "همجٌ" فلسطينيون لتزجية الوقت وقتل الفراغ، عبر توظيف أهداف بشرية إسرائيلية بريئة لاقتناصها في شوارع القدس "غير المحتلة" على الإطلاق إلا في عيون الفلسطينيين وحدهم، وأمام المستوطنات التي استعانت في بنائها إسرائيل بنظريات أفلاطون والفارابي وحماة البيئة وجمعيات الرفق بالحيوان، رغبة منها في بناء نموذج "المستوطنة الفاضلة"، وسط غابات الذئاب وأكلة لحوم البشر.
على أنه يتعيّن التماس العُذر لهذه الأنظمة "المنزعجة"، التي ربما أن بعضها يخشى على رعاياه المطبّعين في إسرائيل، وفي ذهنها ما حدث مرّة لشابّين من الإمارات، قادهما حظهما العاثر إلى إسرائيل لقضاء إجازتهما السياحية، وبينما هما يتلذّذان بالطعام والشراب في أحد المطاعم في تل أبيب، حامت حولهما شبهات المستوطنين والشرطة الإسرائيلية، ظنًّا أنهما "مخرّبان" فلسطينيان يعتزمان تنفيذ عملية "إرهابية" بسبب لهجتهما العربية، فألقت الشرطة القبض عليهما، ولم يطلق سراحهما إلا بعد تحقيقٍ مطوّل، ولم يحظيا هما ولا دولتهما باعتذار حتى.
في الموقف السابق، لم "تنزعج" أنظمة التطبيع ولم تُصدر بيانات استنكار واحتجاج، على الرغم من أن "ذَنَبها" كان المستهدف هذه المرّة، لكنها آثرت الصمت؛ لأن الأحداث جرت داخل "البيت الواحد" كما يبدو، ولم يكن أزيد من خلافٍ داخليّ بين "الأهل" و"الخلّان"، ولا يجوز "نشر غسيلنا" على مرأى الجيران. أما في "الجرائم الفلسطينية"، فمن حقّ هذه الأنظمة أن تقلق، لا على رعاياها، فهؤلاء لا قلق عليهم حتى في بلدانهم، بل على الأحبّاء الأبرياء من بني صهيون الذين يتعرّضون يوميًّا للإرهاب الفلسطيني. على الرغم من أن قاموس البراءة نفسه لا يخلع هذه الصفة على كلّ ما بُني على الأخطاء والخطايا. وفي هذا حديثٌ يطول، سيما بعد أن راج، في الآونة الأخيرة، نشاز نغماتٍ يدين استهداف "المدنيين" الإسرائيليين، على قاعدة أنهم لا يشكّلون خطرًا على الفلسطينيين. ويتناسى أصحاب هذه النغمة أن لا مدنيّ واحدًا في دولةٍ بنيت على اغتصاب أرض أصحابها، وهؤلاء كمن يطالب بمنح الشرعية لبيتٍ شيده لصٌّ على أرض لا تخصه، لكن مع عدم الاعتراف بملكيته الأرض نفسها، فهم يعترفون بحقّ إسرائيل وجودًا ودولة وممتلكات، لكن عندما تذكر الأرض أو "الخطيئة الأولى" التي اقترفها المغتصب، يتلعثمون أو يزعمون أن "الابن لا يتحمّل وزر أبيه"، ما يعني الرضوخ لواقع الخطيئة والاغتصاب، وتجنّب كل ذي علاقة بما يسمّى "الأثر الرجعي".
قلنا، منذ البداية، لا ينبغي توظيف المأثور الشعبي على أنظمة "بلا ذَنَب".. وهذا صائبٌ لأنها غدت "الذّنَبَ" نفسه.