المستقبل الآخر في الكويت
جاء إعلان ولي العهد الكويتي، مشعل الأحمد، حل مجلس الأمة في زمنٍ تراكمت فيه التوترات السياسية بين الحُكم والمعارضة الوطنية، وهنا قلنا الحكم الذي يشمل قطعاً مركزية الأمير ومرجعية ذاته الدستورية، لكون الدعوة إلى الانتخابات وحلّ المجلس، واختيار رئيس الحكومة وقبول استقالتها، من صلاحيات الأمير، سواء في بيانه الشخصي أو من يمثله حين يفوّض كولي العهد، وهو تاريخ سابق برز كثيراً في عهد جابر الأحمد وولي عهده سعد العبد الله. وهذا ما يُعيد السؤال عن تاريخ التأزم السياسي في الكويت، هل هو مراحل منفصلة أم تعاقب دورات متصلة، وهو المرجّح. أما البعد الثاني للحل فهو أن مجلس الأمة الذي حُل شُكّل من انتخاباتٍ أقصي منها، في حينها، رموز المعارضة الوطنية الذين كانوا في المنفى، والشباب الذين جرى اعتقالهم وأودعوا السجن السياسي، وهو ما يعني أنه ولد في زمن تأزّم، ربما كان من صالح الدولة في الحكم والمعارضة الخروج منها، بغض النظر عن مساحات الصراع الأخيرة داخل المجلس وخارجه.
يأخذنا هذا أيضاً إلى أعلى نقطة في التوتر السياسي، جرت خلال الأزمة الخليجية، وكانت هناك مخاوف كبيرة، من أن التحريض الخارجي خلالها سوف ينتهي إلى عملية مواجهةٍ بين الحكم والمعارضة، تخالف قواعد تعايش الكويت مع الحياة السياسية فيها، وتنقُض الهامش الديمقراطي الذي تتمتع به، وهذا الخروج مرّ بمنعطفٍ صعب، انتهى بقرار العفو من أمير الكويت نواف الأحمد الصباح، قرار لعب فيه عبيد الوسمي دوراً مركزياً، لكنه أثار ولا يزال صخباً حوله، وأنه أعطى الحكم وبعض الشخصيات ما لا تستحق، واستثمر ضجيج الإنجاز.
اتهام صعب، التمهّل عنده لا يعني أن الوسمي لا يتغيّر أو لم يتخذ تموضعاً جديداً لحياته السياسية، لكن الذي يعرف تاريخ الكويت وتاريخ الدول المحيطة، والتعامل الشرس مع المعارضين، يضعه في سياق آخر، فمهمة الوسمي كانت الخروج من ذلك الخندق المتوتر الصعب، والتنسيق مع المعارضة، وخصوصا قائدها التاريخي مسلّم البراك، للوصول إلى صفقة وطنية تعيد المنفيين وتطلق سراح المعتقلين، وتعيد الصراع السياسي إلى داخل الكويت، وبالتالي، تظل قواعد اللعبة ساريةً للتوازن الوطني الاجتماعي لأهل الكويت التي تحيط بها عواصفُ لا تهدأ من مواسم التوترات الإقليمية.
لا بد من إعادة تأسيس منطلق التوتر، فلو كانت المركزية الحاكمة منحت المعارضة والصوت الشعبي حقهما، لما وصلت الأمور في الكويت إلى هذا الانغلاق
المشكلة هنا في أن قواعد هذه اللعبة كانت قد اختلت قبل الغزو العراقي للكويت عام 1990، وأن أحد مسارات الاستثمار لمشروع حزب البعث العراقي كان غياب المؤسّسة التشريعية وسقفها المطلوب لمناقشة الأمن القومي، ولذلك كان أحد أهم مخرجات المؤتمر الشعبي الوطني في جدّة، الذي اتحدت فيه المعارضة مع عودة الأسرة الحاكمة، هو منح المشاركة الشعبية سقفها الكامل الذي نصّ عليه الدستور، عبر حكومة القرار الشعبي. ولكن الموقف الحكومي ظل يؤخّر هذه الوعود حتى سُحبت من الطاولة، وتزامن ذلك مع حالات مروّعة من تضخّم الفساد، حتى بات مثلاً يُضرب به في الكويت، رغم أنها كانت من أوائل الحواضر التي تطوّرت منذ الستينيات. تكرّرت دورات المواجهة، التي تصاحبت مع رياح الثورة المضادّة، ورفعت المعارضة سقف خطابها، قبل أن تؤطّر الدولة الوضع عبر المؤسّسة الأمنية والأحكام القضائية.
ولذلك، لا بد هنا من إعادة تأسيس منطلق التوتر، فلو كانت المركزية الحاكمة منحت المعارضة والصوت الشعبي حقهما، لما وصلت الأمور إلى هذا الانغلاق، ولما تربّع الفساد على عرش الحياة الاقتصادية، إلى درجة لا يمكن للأمير وولي العهد من معالجة نفوذه، من دون شراكة شعبية تشريعية قوية. وقد عانت الكويت طويلاً من أثر هذا الفراغ الخطير، تصادم لساني شرس وتذمّر شعبي مبرَّر، لغياب الخطوات المركزية لدفع السلطة التنفيذية إلى العبور إلى الإصلاح، ولا يمكن لها العبور من دون شخصيات منفصلة عن مصالح جمهورية الفساد العميقة، ومن دون حق المساءلة الذي يحتاج أن يستقلّ كلياً عن مواسم التوظيف وصخبه، في الوقت نفسه، تضخّمت قضية البدون الإنسانية، ووجب حلها في مسار حق المواطنة للمستحقّ أو الاستيعاب للبقية في القوى البشرية، وهم أهل البلاد ومواليدها، فرفع الظلم عنهم واجب فوري.
فرق كبير بين سقف التعبير الذي تطرحه أطياف من المعارضة وما يمكن أن يُحقق لإنقاذ الكويت واستقرارها
يرتبط المستقبل الآخر للكويت، بالضرورة، بواقع الإقليم وبالصراعات السرّية والحسابات الصعبة مع الأشقاء في الخليج، ومع المحيط الإقليمي المتوتر الذي يرمي قذائفه من جنوب العراق، وهو ما يعني أن الإصلاح ضرورةُ الضرورات، في الوقت نفسه، يجب أن ترسّخ قاعدة اللعبة الجديدة، بين المجتمع المدني وأطياف المعارضة، وخصوصا أحمد السعدون ومسلّم البرّاك، والدولة في مركزها الكبير الممثل بشخصيتي الأمير وولي العهد، غير ذلك، ستكون تكلفة أي توتر آخر كبيرة جداً.
وأعتقد أن هناك فرقاً كبيراً بين سقف التعبير الذي تطرحه أطياف من المعارضة وما يمكن أن يُحقق لإنقاذ الكويت واستقرارها، ونحتاج التذكير أيضاً بأن ميراث الربيع العربي اليوم تحت قبضة الثورة المضادّة، وأن خطوط الاتصالات بين الحكومات نافذ، والمراهنة على دول محور صديق للإسلاميين وغيرهم من المعارضين في تركيا وغيرها كانت وهما كبيرا، كشفت عنها استقبالات أنقرة الرسمية، بعد التوتر الضخم مع السعوديين. وألمس بوضوح إدراكا عميقا، من قائد الحراك الوطني الإصلاحي مسلم البرّاك، لهذه التوازنات، يتّهمه بعضهم بالتخلي عن مسؤوليته، وهذا غير صحيح فيما يبدو، لكن الرجل أدرك معنى الذهاب إلى سقف مواجهةٍ غير ممكن، وأن من المهم الإبقاء على شعرة معاوية، وهي في حالة الكويت جسر متفاعل مع الأمير.
السؤال الكبير: أين ذهبت الكرة وفي مرمى من، لكي يردّ بقراراتٍ تفتح أبواب الإصلاح وتغلق أبواب التهديد، وهي هنا موقع الأمير وسياسة الحكومة التنفيذية. ولعل ما يساعد في ذلك أيضاً هدأة البال الضرورية بين أطياف المعارضة، لكي يكون الجميع داخل السور الكبير قبل أن يُهدم.