المدنيون وقتل مستوطني النبي يعقوب
في الحروب، يُحاسَب سلوك الأطراف على قاعدة تحريم قتل المدنيين. لا يُسأل قاتل المسلحين عن فعلته، ويكاد حتى ناس المقتول يردّدون بين حسرة ودمعة أنّ "هذه هي الحرب". في حالات السلم، القوانين المدنية تسود، نظرياً، وفيها القتل عموماً، قتل مدني أم رجل أمن، جريمة من الدرجة الأولى. في ظل مواجهة نظام سياسي متسلّط، يكون هدف الثورة المسلحة واضحاً، رموز النظام ومؤسّساته الأمنية وجيشه والناطقين باسمه، وكلما أصاب مقاوِمو السلطة أهدافاً مدنية ضعفت قضية المظلومين، وكلما تماهوا مع من يقاتلون في لاأخلاقهم. وفي مقاومة احتلال عسكري أجنبي، يندُر وجود مدنيين محتلين، فتكون الحسبة أسهل، والالتباس في حالاته الدنيا لدى تحكيم الضمير ورسم الحدود الأخلاقية في المواجهة. أما في حالة احتلال استعماري كالتي تجسّدها إسرائيل، وخصوصاً في القدس والضفة الغربية، ما هو حُكم استهداف مدنيين حين يكونون مستوطنين، لا شيء مدنياً عند غالبيتهم سوى أنهم لا يرتدون البزّة العسكرية؟ مستوطنون يقيمون هناك لأهداف عقائدية على اعتبار أنهم أصحاب رسالة إتمام طرد أصحاب الأرض لتسريع مدّ سيادة إسرائيل من البحر إلى النهر. مستوطنون جزء كبير جداً منهم مسلحون، هم في الواقع قوة احتياط للجيش في أحيانٍ كثيرة، وغالباً ما يقومون بالأدوار القذرة التي يصعب على أي جيش نظامي تنفيذها علناً، بينما هم يستطيعون قتل فلسطينيين في الشارع، وحرق منازلهم وتخريب أرزاقهم وقطع أشجار زيتونهم واستفزازهم والاعتداء عليهم وتعكير حياتهم بكل السبل، وعندما يواجَهون بما يستحقون، غالباً ما تكون القوات العسكرية جاهزة لحمايتهم وللتعاطي مع الضحية الفلسطينية على أنها المعتدي، وعندما ينتقلون إلى المحاكم، يكون قصاصهم رمزياً، إن وُجد.
ليس صحيحاً أنّ إسرائيلياً مدنياً وُلد في بلدةٍ ما أو مدينة أو قرية داخل الخط الأخضر، هو كأي مستوطنٍ يقيم في الضفة الغربية أو القدس الشرقية بقرار "نضالي". الأول ربما يكون فعلاً رافضاً لسياسات دولته وقد أوجدته الدنيا هنا مصادفةً وأوجدت والديه أيضاً مثلما لم يختر أحد مسقط رأسه. أما المستوطن، فمجرّد استمرار إقامته في مستعمرةٍ لا تعترف بقانونيتها حتى دول حليفة لإسرائيل، فإنّ ذلك يجعله، بالنسبة للفلسطيني على الأقل، متساوياً مع الجندي في الذنب.
مناسبة الكلام طبعاً قتل الشاب الفلسطيني خيري علقم (21 عاماً)، يوم الجمعة الماضي، سبعة مستوطنين في مستوطنة النبي يعقوب في القدس الشرقية التي تريد حتى أميركا أن تكون عاصمة لدولة فلسطين. يقول جيران الشاب الذي قُتل بعد تنفيذ عمليته، إنه يحمل اسم جده الذي قتله في العام 1988 المستوطن حاييم فرلمان، بعد طعنه في أثناء سيره إلى عمله في أحد أحياء القدس. قصة توفّر بعض الحيرة والتأرجح أخلاقياً لدى الحُكم على قتل سبعة "مدنيين"، مجرّد إقامتهم في تلك المنطقة تعني أنهم إما موافقون على اضطهاد الفلسطينيين وتهجيرهم وسرقة ممتلكاتهم إن لم يكن على قتلهم، أو على الأقل مصرّون على التعامي عن الحقيقة وصامتون عن الظلم الذي يرتكبونه بمجرّد إقامتهم هنا. أما أنه يمكن أن يكون بين سكّان مستوطنات الضفة الغربية والقدس نسبة ضئية من المسالمين والمضطرّين للإقامة هناك على أراضٍ مسروقة من فلسطينيين فقط بسبب رخص المعيشة مقارنة مع غلائها داخل الخط الأخضر، فإنّ في كل وجهٍ من جوه هذه الحياة ضحايا، لكن تصعُب مساواة مظلومين، نسبتهم ربما تكون واحداً في المائة، كمستوطن كاره لذاته بالمصادفة، مع شعب فلسطيني هو بأكمله ضحية.
أما أنّ عملية كالتي نفذها خيري علقم لا أفق سياسياً لها وليست سوى رد فعل عنيف على جرائم إسرائيل، وآخرها في جنين، الخميس الماضي، فإن ذلك صحيح، وأغلب الظنّ أن خيري لم يفكّر، وهو يخطّط لإطلاق نيران مسدسه، بأكثر من الانتقام. لكن هل فعلاً يُستغرَب أن ينتقم فلسطينيون من المستوطنين؟