المجتمع الإسرائيلي ومآلات المعركة
مرّ المجتمع الإسرائيلي خلال السنوات الماضية بحالة كبيرة من التفكّك الناتج من الصراع السياسي بين القوى والأحزاب، وبين اليسار واليمين، وبين العلمانيين والمتدينين، ونتيجة لتهميش وعنصرية تجاه فئاتٍ بعينها؛ مثلما يحدُث لليهود من الأصول العربية، أو اليهود الإثيوبيين. غير أننا إذا وضعنا ما حدث لهذا المجتمع في السنوات الماضية جنبا إلى جنب مع ما شهده العام الأخير، لن نجد وجها للمقارنة. لقد أدّى تصارع الحكومة والمعارضة حول التعديلات القضائية إلى تعمّق الخلاف بين مؤيدي الفريقين.. ومع وقوف مؤسّسات الدولة العميقة إلى جانب المعارضة في رفض التعديلات القضائية، شعر أغلب مؤيدي اليمين، وخصوصا الأحزاب الدينية، بأن الانتخابات التي أحضرتهم إلى السلطة وإدارة الدولة لا قيمة لها أمام القيود التي تفرضها الدولة العميقة، وهذا رسّخ لديهم شعورا بالقهر والغضب من مؤيدي الوسط واليسار، ومن ثم ازداد الانقسام. وكان الظنّ أن هذه الحالة من التشرذم والتفكك المجتمعي يمكن أن تنتهي، في ظل هذا الخطر الكبير الذي لم تشهده الصهيونية ودولة الاحتلال منذ عام 1948، غير أن الأيام كشفت أنه لم تعد هناك جدوى، وأن المجتمع كله، يقوده السياسيون، مصرّ على شخصنة الصراع حول نتنياهو.
ويلاحظ المتابع لما يحدُث في إسرائيل منذ بدء "طوفان الأقصى" أن المجتمع الإسرائيلي مرّ بمراحل مختلفة، ففي الأيام الأولى كان الهجوم شديدا على القيادات السياسية والعسكرية والاستخبارية، واتهامهم بالفشل وكيل الشتائم لهم. ومع تشكّل حكومة طوارئ، وحشد القوات العسكرية حول حدود قطاع غزّة تراجع التجاذب مؤقتا. ومع مرور الوقت من دون تحقيق إنجاز حقيقي، وتفاقم أزمة الأسرى، وعدم وضعهم على أولويات العملية التي تخطّط لها إسرائيل، واستمرار ضربات المقاومة، وتعرّض ما يقرب من 150 ألفا من الإسرائيليين لحركة تهجير داخلي، ومغادرة عدد مماثل إلى الخارج، ومع انتشار أخبار فساد الحكومة ووزرائها حتى في أحلك فترات الكارثة، عاد التوتر إلى المجتمع، ثم عاد ليهدأ "مؤقّتا" مع انطلاق الحملة البرّية.
لقد أدّت شخصنة الأمور بشأن نتنياهو إلى تقسيم المجتمع الإسرائيلي إلى محبّين وكارهين، صحيحٌ أن صوت مؤيديه تراجع، لكنه تراجع من ليس لديه الجرأة للدفاع عنه الآن بطريقةٍ مباشرة. ولهذا يسعون إلى إسكات المنتقدين بدعوى ضرورة الاصطفاف. بهذا المنطق، يتحدّث الصحافي الإسرائيلي، أريئيل كاهانا؛ ويقول إنه في الوقت الذي ينبغي أن يتّحد الجميع، لم تتوقّف الاتهامات السياسية بين اليمين واليسار، وبين مؤيدي نتنياهو ومنتقديه. ثم يتحوّل إلى تبرئة نتنياهو بشكلٍ غير مباشر حين يلقى بالمسؤولية على خطّة فك الارتباط وخروج الجيش من غزّة كنتيجة لاتفاق أوسلو الذي وقّعه اليسار الإسرائيلي. ويقول كاهانا إن أغلب قادة اليمين كانوا يرفضون ذلك، وقد ثبت الآن أنهم محقّون، بعدما أسهمت هذه الخطّة في إيجاد "حماسستان". ويضيف إن القضاء على "حماس" كان دائما على رأس أولويات اليمين، لكن عدم وجود إجماع شعبي على شنّ عملية واسعة هو الذي منع نتنياهو من القضاء على "حماس" سابقا، لأن المؤسّسات الأمنية والعسكرية، التي تحظى بثقة أكبر لدى الشارع، كانت ضد اجتياح غزّة، كذلك لم يكن نتنياهو وحده من قال إن "حماس" ارتدعت، بل الجميع في اليمين واليسار، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا الجدال الآن حول أخطائه؟ وينتهي كاهانا إلى أن السبب الحقيقي للفشل هو ذلك الخطاب الذي يُشخصن الأمور، ويقسم الناس إلى معسكرات.
الدفاع عن نتنياهو أو الهجوم عليه يمزق المجتمع الإسرائيلي
هذا الدفاع عن نتنياهو أو الهجوم عليه يمزق المجتمع الإسرائيلي، لأن من يهاجمونه يريدون ترميم صورة الجيش والاستخبارات المهزومين، وبالتالي يرفض أتباع نتنياهو جعله كبش فداء لهؤلاء الفاشلين. هذا الوضع، إضافة لما تفعله المقاومة يزيد المجتمع تمزقا، وهو ما تعكسه وسائل التواصل الاجتماعي؛ منها ذلك الجدال الحاد الذي أعقب إفراج حماس عن الأسيرتين المسنتين؛ فقد وجه الصحافي في قناة كان الإسرائيلية عميحاي ستاين اللوم للحكومة ورئيسها للتأخر في الإعلان عن إطلاق سراحهما، وانتقد نتنياهو لأن الجميع عرف بالموضوع من الإعلام الأجنبي. كانت التعليقات على ستاين عاكسة للتوتر المجتمعي؛ فعلّق أحدُهم "دعونا نستمرّ في البحث عن كل شيءٍ ممكن لتشويه الحكومة، لنتجاهل أننا في حالة حرب، وهيا نبحث عن كل الوحل الذي نضعه عليها.. هذا غير معقول"، وعلق آخر "أليس لديكم غير الشكوى، هذه كارثة"، بل إن الأمر تعدّى حدود المعقول حينما تمنّى أحد المعلقين لو تعرضت الأسيرتان للقصف والقتل.
والواضح أن بعض الأحداث التي تسهم في تفكّك المجتمع الإسرائيلي نابعة من تصرّفات نتنياهو والدائرة المحيطة به، وأسلوب إدارته التآمري؛ فقد اتهم الصحافي في معاريف، بن كسبيت، نتنياهو بأنه أو تابعين له أرسلوا رجالا للتحرش بمتظاهرين من أهالي الأسرى، بدعوى أن تكون مصلحة إسرائيل أولا وآخرا، وهاجموا وسائل الإعلام، واعتبر بن كسبيت أن المذنب الحقيقي في ذلك هو نتنياهو ودائرته الذين يشجّعون على التحريض المستمر، وهم السبب في التفكيك الداخلي للسردية الإسرائيلية، وإفساد النسيج الجميل للمجتمع الإسرائيلي الذي كان هنا يوما.
أدّت شخصنة الأمور بشأن نتنياهو إلى تقسيم المجتمع الإسرائيلي إلى محبّين وكارهين. صوت مؤيديه تراجع، ممن ليست لديهم الجرأة للدفاع عنه مباشرة
يلاحظ كذلك أن آثار الأزمة السياسية الخاصة بالتعديلات القضائية ما تزال تُلقي بظلالها على تفسّخ المجتمع، وهي مستمرّة يبرّر مؤيدوها من خلالها سبب الهزيمة. في هذا السياق، اتهم الحاخام شموئيل إلياهو المحكمة العليا بأنها المسؤولة عن "المذبحة"، مستشهدا بعدم إطلاق أحد سائقي الشاحنات النار على "المخرّبين"، بدعوى خشيته من التعرّض للمحاكمة، وهو ما يعني أن عدم تمرير التعديلات القضائية كان سببا في الكارثة. ومقابل ذلك، يرد الطرف الآخر بأن هذا منطق معوّج، وهو منطق نتنياهو، في عام 2018 حين اتهم المحكمة العليا بتقييد يد الجيش في التعامل مع مسيرات العودة؛ وادعى أنها أجبرت الجيش على عدم إطلاق النار على من اقترب من السياج في غزة. وهذا كله خيالٌ فاسد، لأن الجيش قتل حينها مئات من سكّان غزّة، وأصاب أكثر من 30 ألفا. وحينها، لم يتمكّن أحد من التسلّل إلى إسرائيل، لأن أمر المحكمة كان أن تطلق النار فقط على من يقترب من الجدار العازل. وقد ألقت المحكمة ساعتها باعتراضات المنظمّات الحقوقية إلى المزبلة، وأتاحت للجيش مواصلة مهمّته، وبذلك حمت الضباط والجنود من الملاحقة القانونية الدولية، فكانت المحكمة العليا بمثابة قبّة حديدية للجنود، وهي القبّة التي حاول زعماء الليكود تدميرها.
تظهر آثار الأزمة أيضا في كم التعليقات التي هاجمت يئير لبيد على تغريدة له فيها صورته مبتسما مع الجنود؛ فوُصف بأنه "مهرّج ميؤوس منه، وعار"، وشخص كل اهتمامه "تقديم طلبات سحب الثقة من الحكومة"، أو "غبي"، أو "كيف يضحك ملء فيه بينما سقط 13 قتيلا من الجنود"، وأنه "أكبر المحرّضين وليذهب إلى الجحيم".. وإلى جانب ذلك، لا يتوقف الحديث في الإعلام التابع لليمين الإسرائيلي عن "اليساريين الخونة"، وهو حديثٌ تتزعّمه القناة 14 الإسرائيلية الموالية للحكومة.
نهاية المعركة من دون الوصول إلى سقف أهدافها بالقضاء على المقاومة، مع ارتفاع فاتورتها البشرية والاقتصادية والنفسية، واحتمال اتّساع رقعتها، ستأخذ المجتمع الإسرائيلي إلى طريق اللاعودة
ويقارن إسرائيليون هذا النسيج الاجتماعي المتفكك بتماسك المجتمع الفلسطيني في غزّة خلف حركة حماس. وتعليقا على الصراعات التي لا تتوقف في إسرائيل، يتساءل الصحافي في "هآرتس" حاييم ليفنسون: هل سمعتم أحدا على الطرف الآخر يفعل ذلك مع "حماس"؟ هل رأيتم في غزّة من يرفض ما تفعله الحركة؟ إنهم يوافقون على ما يصدُر عنها، ويناصرونها ويدعمونها.
ويعتقد الباحثان في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أوتيلا شومبفلي، ودافيد سيمان طوف، أن لإيران دورا رئيسا في تعميق التفكك المجتمعي الحاصل أصلا منذ بدء الصراع السياسي عن التعديلات القضائية، وقد زادت من جهودها أكثر عقب بدء عملية طوفان الأقصى. ويقولان إن هيئات التفتيش المدنية في إسرائيل كشفت عن وجود "روبوتات" يُشتبه أنها إيرانية تبثّ رسائل في وسائل التواصل الاجتماعي لإلحاق ضرر جسيم بالاستقرار الداخلي ولحمة المجتمع، خصوصا وأنه لم يعُد أحدٌ يتوقع انتهاء الانقسامات، بل إن الدعوة إلى تلك الوحدة وتهدئة النفوس لم تعد واقعية، وربما اعتبرها كثيرون ساذجة.
لكن الحقيقة أن أمريْن يؤجّجان هذا الانقسام، الذي يشعر الجميع به هناك: أحدهما تصرّفات الحكومة ووزرائها؛ فهي لم تقدم خطابا للوحدة ولا لتجاوز الخلافات، كأن تعلن مثلا عن وقفها لخطة التعديلات القضائية، رغم أن الأحداث تجاوزتها، لكنها لم تفعل، أو أن يتوقّف الوزراء عن بعض الإجراءات الإدارية المختلف عليها لتأكيد إيثارهم المصلحة العامة، وهو ما لم يحدُث أيضا. الأمر الآخر أن الإعلاميين والصحافيين هناك ليسوا قادرين على ترك الخلافات جانبا، وهم أكثر من يؤجّج هذا الانقسام الذي ربما تستغله إيران أو المقاومة، لكنهما ليسا من يصنعانه، وأحسب أن تأثيرهما فيه، وهو موجود بالطبع، ليس كما يصوّر الباحثان اللذان ربما يحاولان إيجاد ما يخفّف من حدّة التناحر الواقع. ومن المؤكد أن نتائج الحرب الدائرة ستسهم أكثر في تفتيت المجتمع الإسرائيلي، غير أن نهايتها من دون الوصول إلى سقف أهدافها المعلنة بالقضاء على المقاومة، مع ارتفاع فاتورتها البشرية والاقتصادية والنفسية، واحتمال اتّساع رقعتها، سوف تأخذ المجتمع الإسرائيلي إلى طريق اللاعودة.