المبادرة الأردنية تُسعف الأسد
لم يحصل أن استجاب نظام الأسد لأي مبادرةٍ للحل السياسي في سورية، ولم يعلّق، رسميا، على أي مشروع للحل السياسي. لذا كان مفاجئا إعلان مسؤول في السفارة السورية في عمّان ترحيب النظام بأي مبادرة من شأنها إيجاد حلّ سياسي في سورية، وهذا ليس ردّا عفويا، بل جرى التدقيق في هذه الكلمات وتمحيصها، وهي نتاج أوراق سياسية قدّمها خبراء النظام للأسد.
يكشف السياق الذي أنتج هذا الردّ من النظام، عن الدوافع الحقيقية لهذا الترحيب، إذ ليس سرّا أن نظام الأسد وصل إلى أقصى درجةٍ من الإفلاس الاقتصادي، جرّاء التضخّم وهبوط سعر الليرة واستملاك روسيا وإيران الأصول الاقتصادية السورية، وبات على عتبة أوضاعٍ يبدو أن ضبط الشارع لن يكون سهلا فيها، في مواجهة الجوع الذي تجاوز كل حدود القدرة على التحمّل.
في المقابل، ليست لدى نظام الأسد خيارات ذات قيمة لمعالجة هذه الأوضاع، فكذبة الحصار وتداعياته على حياة الناس لم يعد لها قدرة على إسكات الجوع، وسردية الانتصار على المؤامرة الكونية لم تعد تساوي قشور البصل الذي بات الحصول عليه بمثابة حلم، ولم يعد لدى حلفائه ما ينجدونه به، بدليل أن زيارة الأسد موسكو، أخيرا، انتهت بخيبة أمل كبيرة، ولم تقدّم روسيا أي مساعدات لنظامه، وجل ما قدموه له النصح بالانفتاح على تركيا والمحيط العربي، لعله يستفيد اقتصاديا، للخروج من أزمته التي وصلت إلى حدود الكارثة.
تبدو المقاربة الأردنية لحلّ الأزمة السورية بمثابة بارقة أمل لنظام لم يبق منه طافيا على السطح سوى رأسه
معروفٌ أن المعروض دوليا، أي قرار مجلس الأمن 2254، هو في نظر نظام الأسد الطريق المعبّد إلى سقوط النظام، إذ يعتقد الأسد ودائرته الصلبة أن مجرّد القبول بالانخراط في تطبيقات القرار يعني أنه وضع نفسه تحت الوصاية الدولية. صحيح أن القرار لا يتضمّن ذلك بشكل صريح، لكن الاصطفافات الدولية الراهنة، ومزادات بيع الأوراق في اللعبة الدولية المفتوحة قد تطيحه ببساطة، نظرا إلى ضعف وزنه وهامشية أوراقه في لعبة دولية معقّدة، لذا لن يكون في مأمن، حتى من أقرب حلفائه، المقصود هنا روسيا التي ترزح تحت وطأة ضغوط مصيرية، لا تعرف موسكو كيف ستخرُج منها.
على خلفية هذه المعطيات، تبدو المقاربة الأردنية لحلّ الأزمة السورية بمثابة بارقة أمل لنظام لم يبق منه طافيا على السطح سوى رأسه، دعك من اللغة الانتصارية التي يتحدّث بها هو وحلفاؤه، هذه ليست أكثر من مكابرة. وفي كل الأحوال، لم يعد ثمّة إمكانية لإخفاء الحقائق في بلد أصبحت وجبة الغداء، حتى لو كانت مكوناتها هندباء، أكبر من قدرة أكثر من 70% من الشعب.
لكن لماذا المبادرة الأردنية تشكل مخرجا بات حلما لنظام الأسد؟ أولا: استجابة نظام الأسد لها سيعني طي صفحة قرار مجلس الأمن 2254 نهائيا. فالمبادرة، وحسب ما تسرّب منها، تطبيقٌ مبستر إلى حد بعيد للقرار، بل هي صيغة مختلفة، تتأبّطه فقط للحصول على الشرعية، لكن القرار في بنودها ليس سوى صدى بعيد، حيث سيتخلّص نظام الأسد من فكرة تأسيس هيئة حكم انتقالي وانتخابات حرّة بمراقبة دولية واستفتاء على دستور جديد أو معدّل، وتأتي هذه المسائل في المبادرة الأردنية على الهامش.
ليس أصعب من أن يصبح الرفض الأميركي طوق نجاة السوريين
ثانيا: تمنح المبادرة الأردنية "خطوة بخطوة" مساحات أمان شاسعة لنظام الأسد، وتوفر له وسائد أمنية يحتاجها جدا في هذه المرحلة، إذ سيسوّق استجابته لها بداية مسارٍ لحل الأوضاع المأزومة في الداخل، ولن تتأخّر كثيراّ التدفقات المالية على سورية، بل سيهيئ النظام للسوريين أن الدول الخليجية بدأت بعدّ رزم النقود التي سترسلها، والتجهيز لمشاريع الإعمار والاستثمار في سورية. وفي الوقت نفسه، يكون نظام الأسد قد استعاد علاقاته الدبلوماسية مع معظم الدول العربية، وعادت الحياة إلى شرايين العلاقات الاقتصادية والتبادلية مع هذه الدول، إلى درجة تصبح حتى المبادرة نفسها قد أصبحت من زمن قديم، وغير ذات معنى في ظل التطورات الحاصلة.
ثالثا: تمنح المبادرة الأردنية إيران وحزب الله فرصة سهلة للتخفي، والقول إنهما ملتزمان بالسيادة السورية، وما تمليه مصالح النظام السوري، وسيبيعون الوهم للسوريين والعرب بأنهم انسحبوا، في حين أنهم لن يفعلوا سوى تغيير الرايات والأعلام وإلباس عناصرهم لباس أجهزة الأمن السورية، ذلك أن المبادرة لا تتضمّن أي آليات لمراقبة تنفيذ شروطها، وستعتمد، بدرجة كبيرة، على ما يقوله النظام ويصدّره من قرارات ومراسيم، وما ستصوره وسائل إعلامه.
قد يستغرق اكتشاف كذب النظام ومناورته سنتين على الأقل، لكن الدول العربية لن تتأخر أكثر من شهر لتطبيع العلاقات كاملة مع نظام الأسد، بعد إعلانه الموافقة على المبادرة. ويبدو أن رئيس تونس، قيس سعيّد، قد نطق بما يجول في فكر أغلب الأنظمة العربية، من أن مشكلة النظام مع شعبه مسألة داخلية لا تعنينا. وتكاد المبادرة الأردنية تقول الشيء نفسه، إنما بلغة دبلوماسية، إذ تقول بالصريح إن المشكلة في تجارة المخدّرات ومليشيات إيران التي تهدّد أمن دول عربية كثيرة، والباقي مجرّد زوائد إن حضرت وإن غابت لن تؤثر على الطبخة الإقليمية الجاري إعدادها.
ليس أصعب من أن يصبح الرفض الأميركي طوق نجاة السوريين، ليس من العصابة التي تحكمهم وحسب، بل ومن أشقائهم الذين يستعجلون قذفهم في فم الوحش الفالت.