المؤشّر العربي 2022: اعتدال في التديّن

25 يناير 2023
+ الخط -

أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي برنامجه لقياس الرأي العام العربي "المؤشّر العربي 2022"، الذي قدّم استطلاعات وخلاصات لجوانب حيوية عدة في المنطقة، من بينها دور الدين في الحياة العامة والحياة السياسية.

في تصنيفه المتديّنين في العالم العربي، خلص المؤشّر إلى وجود ثلاث فئات كبرى: المتدينون جداً (24%)، والمتدينون إلى حد ما (61%)، وغير المتدينين (11%). يغلب على الفئة الأولى تعريف تديّنهم بالتركيز على العناصر الآتية: إقامة الفروض والعبادات (53%)، ثم تليها الصدق والأمانة (22%). أما المتدينون إلى حد ما، فيعرّفون تديّنهم بالتقارب بين إقامة الفروض والعبادات (35%) والصدق والأمانة (32%) وخدمة الآخرين (17%). أما الفئة الثالثة، وهم من يعتبرون أنفسهم غير متديّنين، فهم أيضاً مشابهون للفئة السابقة في التقارب بين نسب إقامة الفروض والعبادات (32%) والصدق والأمانة (27%)، والملاحظ ارتفاع نسبة حسن معاملة الآخرين عندهم (19%)، وحضور لافت لقيمة مساعدة الفقراء والمحتاجين (13%). ويفيد "المؤشّر" بأن نسبة الذين يعتبرون إقامة الفروض والعبادات المعرّف الأساس للتديّن آخذة بالتناقص، مقارنة بالمؤشّر العربي سنة 2014. كذلك أفاد بأن أكثرية الرأي العام العربي لا تقبل الآراء المتشدّدة في تفسير الدين أو التديّن، بل تمثل تعدّدية في المواقف والاتجاهات.

وبناءً على هذه النسب، السمات المميزة للمتديّنين في المنطقة، باعتبار أن أغلبيتهم متديّنة إلى حد ما، هي التوازن ما بين عنصر العبادات وإقامة الفروض وحسن معاملة الآخرين والصدق والأمانة، وهي تعني محافظة التديّن عند عامّة الناس على طبيعته المعتدلة والمتوازنة، رغم كل الاتجاهات والتأثيرات التي تتجاذبهم نحو مزيدٍ من التشدّد أو الانغلاق.

الحالة الدينية آخذةٌ في الانسجام شيئاً فشيئاً مع متطلبات الحياة العامة الحديثة، من دون أن يعني ذلك تقويضاً للدين أو تجاهلاً أو انتهاكاً لمبادئه

ومن اللافت للانتباه أيضاً ارتفاع نسب حسن معاملة الآخرين ومساعدة الفقراء والمحتاجين عند الفئة التي عرّفت نفسها غير متدينة، الذي نفهم منه أنها فئة فاترة الإيمان فحسب، ومتديّنة هي الأخرى إلى حدّ ما، وإن بطريقتها الخاصة، لكنها تميل إلى تعويض هذا الفتور بالإحسان وحسن المعاملة. وبمنطق "اليد الخفية" عند آدم سميث، عمل هذه الفئات داخل المجتمع تفاعلي ومتبادل التأثير، يمنح، في النهاية، صورةً عفوية إلى حدّ ما ومعتدلة للتديّن في المنطقة. وهي تركيبة جد مساعدة على فهم طبيعة التديّن الشعبي السائد دائماً.

ولكن، ما هي إفادات المؤشر العربي عن حضور الدين في الحياة السياسية؟ لتحصيل أجوبة في ذلك، طُرح سؤال أفضلية تولي المتديّنين المناصب العامة في الدولة؟ فكانت الإجابة انحياز نسبة هامة من الرأي العام إلى قبول توليهم ذلك (46%) في مقابل رفض 48%، وهي النسبة التي اعتبرها الاستطلاع قد ارتفعت مقارنة بالاستطلاعات السابقة، ولم يسبق أن سجلت إلا في تقرير 2014، غير أن فهم المسألة يحتاج منا إلى استحضار مسألة أساسية هنا، وهي تذكّر انحياز أغلبية الرأي العام العربي إلى تعريف التديّن بسمات أخلاقية وقيمية، فيكون بذلك تفسير الموافقة الجزئية على تولّي المتدينين هذه المناصب، يقصد بها الذين يتحلّون بصفات الصدق والأمانة وحسن معاملة الآخرين ويهتمون بالفقراء والمحتاجين. وهي نتيجة طبيعية تؤكّد مجدّداً اعتدال الرأي العام العربي دينياً، وتمييزهم بين الجوانب الأخلاقية والقيمية ذات الأثر على المجال العام، والجوانب التعبّدية الصرفة ذات الأثر الفردي، وإنْ كانت هذه الأخيرة ضرورية لاكتمال الجوانب العملية ورسوخها عند المتديّن، لكنها عندما تغلب من دون أن تترافق بالجانب العملي المرتبط بالآخر، تدفع نحو تديّن معزول ومتعالٍ. ولهذا، أفاد التقرير بانخفاض نسب حسن معاملة الآخرين ومساعدة الفقراء والمحتاجين وصلة الرحم عند من عرّفوا أنفسهم بالمتدينين جداً. وقد يساعدنا على الفهم هنا إدراكنا أهمية مؤسّسات التقليد الديني داخل مجتمعاتنا، الذي يحافظ على تلك التكاملية في التديّن، والاتزان والاعتدال، والذي لا يزال، رغم كل شيء، هو المسيطر على الساحة الدينية.

أكثرية الرأي العام العربي لا تقبل الآراء المتشدّدة في تفسير الدين أو التديّن، بل تمثل تعدّدية في المواقف والاتجاهات

أما السؤال الثاني، فكان عن تأييد فصل الدين عن الدولة؟ ويفيد المؤشر العربي بأن نسب المؤيدين بلغت 48%، وهي نسبة لا يستهان بها حسب وصف التقرير، رغم تقارب نسب المؤيدين والمعارضين طوال السنوات الماضية، حيث بلغت نسبتهم 43% في 2011، آخذة في الارتفاع في مسار تصاعدي إلى أن بلغت 53% في 2016، لتنخفض مجدّداً إلى 49% في 2019/2020. ويرجع "المؤشر" سبب ارتفاع نسبة مؤيدي الفصل إلى انخفاض نسبة الذين لم يحدّدوا رأياً تجاه المسألة، بمعنى ميل هذه الفئة نحو تأييد الفصل سنة بعد أخرى، وخروجهم من دائرة التردّد أو الصمت. ويمكن أن نضيف أن التردّد الذي كان تجاه اتخاذ موقف ما، مردّه التزامن مع تجارب سياسية في المنطقة يتميز أصحابها بالطابع الديني، التي لم تكن عند مستوى تطلّعات كتلة كبيرة من الرأي العام العربي. كذلك انحازت الغالبية إلى قبول مقولة: "يجب ألا يؤثر رجال/ شيوخ الدين في كيفية تصويت الناخبين" (75%)، وقبول مقولة "لا يحق للحكومة استخدام الدين للحصول على تأييد الناس سياساتها" (72%).

وإذا أردنا أن نسحب هذه الخلاصات وسابقاتها وندمجها في سياق فهم تحوّلات المجتمعات العربية، فإن الملاحظ أن التديّن الغالب يميل إلى التمييز العملي، الذي لا يعني الفصل، بل يعني حرصاً على امتلاك الشخص حضوراً قيمياً وأخلاقياً في أي منصب أو مسؤولية كيفما كانت، من دون أن تغلب على جانب الكفاءة والتجربة. ولهذا مال أغلبهم إلى عدم اعتبار الشخص غير المتدين سيئاً، حيث رفض أغلبهم هذه المقولة (78%). وتؤكّد المسألة أيضاً أن الحالة الدينية آخذةٌ في الانسجام شيئاً فشيئاً مع متطلبات الحياة العامة الحديثة، من دون أن يعني ذلك تقويضاً للدين أو تجاهلاً أو انتهاكاً لمبادئه. وإذا أضفنا موقف الرأي العام من المخالف دينياً، حيث وافق أغلبهم (57%) على قبول مقولة "ليس من حقّ أي جهة تكفير الذين ينتمون إلى أديان أخرى"، فإن الصورة ستقدّم رأياً عاماً عربياً بلغ درجة مهمة من النضج في اختياراته وأحكامه، بناءً على توافق بين شبكة مصالحه وقيمه الدينية.

وأخيراً، يمكن القول إن الملاحظ على دور الدين في هذا التقرير، توازن كفته مع بقية العناصر الأخرى في حياة المواطن العربي، بشكلٍ لا يجعل الدين متحكّماً بالمطلق في حياتهم كما يصوّره بعضهم، بل يتموقع كطرف في سياق تدافعات متبادلة بين جوانب متعدّدة في واقعهم المعيشي، يحاول كل جزءٍ منها القيام بدوره بناءً على حاجيات المواطنين وتبدّلات واقعهم.