الليبرالية والشعبوية والسياسة

28 مارس 2022

(سمير صايغ)

+ الخط -

لافتٌ، جداً، أن يكتب فرنسيس فوكوياما، صاحب أطروحة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، التي أعلنت انتصار الليبرالية على الشيوعية مع نهاية الحرب الباردة قبل أزيد من ثلاثة عقود، وتحولها نموذجاً نهائياً للنجاح الإنساني، معقباً على غزو روسيا أوكرانيا، بأنها تعبير عن نهاية نهاية التاريخ. ولافت أكثر أن فوكوياما الذي نشر مقالاً بهذا المضمون، قبل أسابيع في صحيفة فايننشال تايمز، اعتبر فيه الغزو الروسي نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ العالم، تدل على نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة؛ أي نهاية نهاية التاريخ. لم يقل إن هذه النهاية المزعومة وقعت بسبب نجاحات النماذج الأخرى، غير الليبرالية تماماً التي يمكن القول إن قوى أخرى عالمية قدّمتها، في صدارتها الصين وروسيا، بل اعتبر أنها ترجع إلى مشكلات الليبرالية الجديدة نفسها، التي قضت على قيم الليبرالية التقليدية، بشكلٍ قاد إلى حرمان الناس من الحماية التي يجب أن توفرها الدولة ضد تقلبات السوق، وتخفيض الإنفاق الاجتماعي. وفي المحصلة إحلال السوق محل الدولة، ما أدّى إلى حالة من عدم المساواة في المجتمعات، معتبراً أن ذلك مردّه "التحوُّل نحو الشعبوية داخل الديمقراطيات العريقة" ومنها الولايات المتحدة.
يقدّم فوكوياما قراءة الباحث العارف بمشكلات الليبرالية الجديدة، ما يعني أن تحوّل السياسة في البلدان الديمقراطية نحو الشعبوية مثّل مقتلاً منع تصدير نموذجها من جهة، وجعلها شكلاً تنظيمياً يحمل، في طياته، بذور انهياره، لأنه سبّب مشكلات اجتماعية واقتصادية عميقة داخل بلدانه التي انتصرت قبل ثلاثة عقود على النموذج الشيوعي المضاد، إذ أفرزت تلك الشعبوية قيادات سياسية ضعيفة الرؤية الاستراتيجية، ولعل هذا ما يفسّر افتقاد الدول الغربية الليبرالية الكبرى قيادات كاريزمية ذات حنكة سياسية خلال العقدين الأخيرين، واتخاذها قراراتٍ عسكريةً وسياسيةً مدمرة على مستوى العالم، لعل من أبرز نماذجها الرئيسين الأميركيين، جورج بوش الابن ودونالد ترامب، فضلاً عن سياساتها الداخلية المفتتة للمجتمعات، مقارنة بنجاح النماذج الغربية التي كانت أكثر توازناً في سلوكيها، الداخلي والدولي، ولم تنحرف إلى الشعبوية، مثل المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.

جنح الإسلاميون نحو الشعبوية، وتبدّى ذلك في خطابهم غير الواقعي الذي يركّز على استدرار العاطفة الدينية عوضاً عن الانخراط في المشكلات الحقيقية للمجتمعات

وما أغمض فوكوياما عينيه عنه يحسن بنا، نحن الذين نعيش خارج ذلك الجدل الليبرالي المباشر، أن ننظر إليه، وأبرزه نجاح الصين في التحوّل من دولة نامية فقيرة إلى دولة صناعية غنية (رغم أنها ما تزال تسمّي نفسها نامية)، عبر اتباعها شكلاً وسطاً بين الليبرالية والاشتراكية، لا يختلف كثيراً عن الشكل الوسطي الذي اتبعته الدول الأوروبية ذات "اقتصاد السوق الاجتماعي" خلال عقود طويلة، ونجحت من خلاله في إقامة دولة الرفاه، تلك التي يعتبر فوكوياما أن الليبرالية الجديدة قضت عليها لصالح السوق. وقد جرى ذلك بالطبع في الصين خارج إطار الشعبوية الذي لا يتيحه الشكل السياسي غير الليبرالي بتاتاً الذي تقوم عليه السياسة في الصين. وهذا بالمناسبة لا يعني امتداح النموذج السياسي الصيني، لكنه يلاحظ محاسن غياب تأثير الشعبوية على السياسة.
ربما تكمن القيمة الكبرى في تحليل فوكوياما، بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين، في ضرورة الانتباه إلى الخطر التدميري الذي تسبّبه الشعبوية للسياسة، بخاصة أن حركاتنا السياسية الأكثر حضوراً؛ أي "الإسلاميين" الذين ينخرطون في السياسة، جنحوا هم أيضاً نحو الشعبوية خلال العقدين الأخيرين، وتبدّى ذلك في خطابهم غير الواقعي الذي يركّز على استدرار العاطفة الدينية عوضاً عن الانخراط في المشكلات الحقيقية للمجتمعات. وعلى هذه القاعدة (قاعدة العاطفة الدينية) قفزوا إلى المقاعد الأولى عقب ثورات الربيع العربي، كما جرى في مصر على سبيل المثال لا الحصر، وكما جرى في البلدان الأخرى التي تصدّرت الحركات الدينية السياسية قيادة ثوراتها، ثم ما لبثت هذه أن أخفقت في إدارة السياسة والثورة معاً.

المسكوت عنه في الخطاب الشعبوي الذي تبثه الحركات الدينية أنها هي الممثل الشرعي والوحيد لمشروع نهضة المسلمين الذي يخافه أعداء المسلمين

للموضوعية، يمكن القول إن الخطاب الشعبوي للحركات الدينية العربية، يقوم على بعدين. الأول: ادّعاء النيابة عن الأمة: إذ تتصوّر الحركات الدينية أنها تمثل الإسلام دوناً عن أمة المسلمين، ما ينطوي على جعل المضي في ركبها شرطاً لاكتمال إسلام المرء. وهكذا تظن تلك الحركات أنها تنوب عن عامّة المسلمين في تمثيل الإسلام، والسعي إلى تطبيق شرع الله، واستجلاب نصر الله وتحقيقه. ومؤكّد أن هذا الوهم قاد تلك الحركات إلى الانفصال عن الأمة والاستعلاء عليها.
الثاني: ادّعاء أن عداءها مع الأنظمة السياسية في دولها ديني أيديولوجي، وليس سياسياً، أي أنها تلاقي الاضطهاد من تلك الأنظمة المستبدّة لكونها حركات إسلامية تريد أن تنهض بالمسلمين، لا لكونها حركات معارضة سياسية. لا يتسع المقام هنا لإيراد أدلةٍ على أن العداء إن وجد فهو سياسي وليس جذرياً، ولم يمنع من ترابط الطرفين وتواصلهما في مناسبات عديدة، واستخدام كل منهما الآخر. لكن المسكوت عنه في هذا الخطاب الشعبوي الذي تبثه تلك الحركات الدينية أنها هي الممثل الشرعي والوحيد لمشروع نهضة المسلمين الذي يخافه أعداء المسلمين، كالغرب، والمستفيدون من تخلفهم، كالأنظمة المتسلطة الموالية للغرب.
أعفى هذا الخطاب الشعبوي الحركات السياسية الدينية من تقديم خطاب واقعي، وهو سبب رئيسي في تراجع حضورها ونفوذها في غير بلد عربي أخيرا، وتقدّم "خطابات" أخرى انتهجت درب الواقعية، ومن أمثلة ذلك ما يجري اليوم في النقابات المهنية في الأردن التي ظلت تحت سيطرة الإسلاميين نحو ثلاثين عاماً، إذ نحت الهيئات العامة للمهندسين والأطباء والممرضين، وآخرهم المهندسون الزراعيون قبل أيام، وهم جميعاً جسم أساسي في المجتمع، إلى إبعاد الإسلاميين، واختيار آخرين قدّموا خطاباً يتّجه مباشرة للمشكلات اليومية الحقيقية، بعيداً عن الشعبوية.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.