اللبنانيون وشروط الكفّ عن إعادة إنتاج العبث
لعل الدرس الأبلغ الذي يمكن أن يستفيد اللبنانيون وأي متابع للوضع اللبناني منه، بعد كل قضية خلافية يخوضون غمارها، وبعد كل أزمةٍ يمرّون فيها، أن تجميع عدّة جماعات بشرية لا يمكن أن ينعكس في مجتمعٍ متجانسٍ ودولة قانون ونظام، ولا أن يشكّل إحداها. ليس أولها تلك الأزمة التاريخية التي نشأت عن الصراع حول هوية لبنان، والسؤال الذي تبلور حينها "هل لبنان بلد عربي أم هو ذو وجه عربي؟"، وليس منتصفها السؤال حول شكل الدولة وطبيعتها "هل لبنان دولة مدنية، أم أنه دولة طائفية؟ وهل هناك أي تعارض بين الاثنتين؟ وهل مجرد إلغاء الطائفية السياسية يكفي لمعالجة كل المشكلات الطائفية التي لا تكفّ عن الظهور؟"، وليس آخر تفتقاتها تلك المشكلة التي شاهدناها منذ أيام "هل يتبع لبنان التوقيت الصيفي أم التوقيت الشتوي؟ وما علاقة أمر التوقيت بالانقسام الطائفي الذي تأتى عنه؟". فهذا النوع من الأسئلة هو الذي يعيد تذكير اللبنانيين، عند كل منعطف، بعدم إمكانية وحدتهم، وبراهنية مشروع "الفدرلة" وصولًا إلى التقسيم بالتالي، انطلاقًا من الاختلاف على مجمل القضايا التي يفترض أن تكون بديهيةً في أية دولة ممكنة، وأية دولةٍ بهذا الحجم الصغير جغرافيًا.
إذن، لا بد من القول إن لبنان هو النموذج الذي يدحض كل إمكانات تشكيل أي مجتمع سياسي منظّم ومتجانس من مجرّد جمع عدّة جماعات تختلف ثقافيًا وتاريخيًا وتتبع مجموعة دول خارجية، وتختلف بوعيها ذاتها ولتجربتها التاريخية والسياسية في النظام وخارجه، ولها معايير وقيم وأخلاقيات متناقضة حيال السلوك الواحد نفسه. وصولًا إلى ملاحظة أن ما يجمع اللبنانيين هو، وبقراءة أكثر جذرية، نزوعهم المستمرّ إلى الانقسام، وتوافقهم عليه، وأن هذا الأمر يسقط بدوره على تفاصيل مختلف القضايا المتبقّية التي يصبح الخلاف بشأنها تحصيل حاصل.
والحال أن التردّد المستمر لكل أشكال الخلاف بين اللبنانيين، وبعد مجموع التجارب الأليمة التي خاضوها، يفترض أن يصل بهم إلى مرحلة الصدق الذاتي في مقاربة القضايا، وفي الحوار بشأنها. حوار جدّي يحسمون فيه نقاط الخلاف، بوضوح ومن دون سلسلة التكاذب الوطني، ومن دون المزايدات الشعاراتية التي تهيمن على البلاد منذ تأسيسها، والتي لم تجد طريقها إلى التطبيق يومًا، ولم تستطع تكريس أو إنتاج أيٍّ من أنواع السلم الأهلي، بل مجرّد مكابرات تُترجَم سلوكيًا بشكلٍ يخالف كل ما تفصح عنه: فهل يريد اللبنانيون العيش معًا، أم أنهم يريدون التقسيم، وعيش كل جماعة بمفردها بنوع من الاستقلالية الذاتية وبمنظومة قيم تتوافق بشأنها؟ قد تبدو الإجابة عن السؤال بديهية بعد معاينة المشهد برمّته، مشهد التكسير المجتمعي والطائفي الذي يعيشه وينتجه اللبنانيون، والذي يعيدون إنتاجه بشكل مستمر، حيث وصل الأمر بهم إلى تكسير الاتفاق على التوقيت وبديهياته.
لبنان هو النموذج الذي يدحض كل إمكانات تشكيل أي مجتمع سياسي منظّم
قد يبدو الأمر كأنه دعوة إلى الشرذمة، أي أنه كلام يحمل في طياته دعوة للعودة إلى القبائلية والعشائرية والتقوقع، وإلى كل ما يبدّد فكرة التجمّع الإنساني المنظّم والتكاملي. هذا أبعد ما يكون عن حقيقة الأمر. إلا أن الضرورات باتت تقتضي الإجابة الحقيقية والواقعية عن السؤال: أين يندرج كل ما يحدُث من إشكالات ومن قضايا خلافية، وما الذي تنتجه؟ في أية خانةٍ وأي سياق؟ بالإضافة إلى غيرها من أنماط الأسئلة التي تؤكّد على الحاجة إلى نقاش واقعي في شروط العيش الواقعية. ذلك لأن الفكرة التي اكتسبتها البشرية عن العقد الاجتماعي تاريخيًا كلها تفيد بأن توازن الرعب هو الذي أوصل الأفراد، والجماعات، إلى حالةٍ من التعب والإرهاق، والشعور بالتهديد بالفناء، والذي كانت نتيجته العقد الاجتماعي المتمحور حول الاعتراف والتسامح والتخطّي بوصفها أبسط شروط العيش المسالم في مجتمع واحد. كما وأن هذه الحقيقة هي التي أنتجت الدولة الأمّة، وكل تفاصيل الدولة كمؤسسةٍ يحكمها قانون، وتساوي بين حقوق جميع أعضائها وواجباتهم، بمعزل عن طوائفهم أو ثقافاتهم أو منظومتهم القيمية.
فكيف يمكن لدولة لبنان التي خاضت كل الشروط المؤسِّسة للعقد الاجتماعي، ليس أولها الحرب الأهلية التي مرّت في كل ويلاتها، ولا كل توازن الرعب الذي نتج عنها، أن تبقى أسيرة الشروط التي أدّت إلى اشتعال تلك الحرب وانقساماتها، وليس النتائج التي يُفترض أنها انتهت إليها؟ هو سؤالٌ ليس بالأحجية، ولا يطرح نفسه على سبيل السخرية وبقية عناوين مكر التاريخ. بل نطرحه من منطلق مساءلة البديهيات، وإعادة التفكير في سلسلة المقولات الفارغة التي يسير البلد وفقها، من صيغة "الديمقراطية التوافقية"، وصولًا إلى صيغة "لا غالب، ولا مغلوب". إذ من العبث توقّع نتائج مختلفة، خصوصًا إذا ما تم اعتماد آليات التفكير والشعارات والممارسات المنهجية ذاتها، وهو ما يسري على المجتمعات وحركتها. من هنا، تصبح نتيجة عنوان تعايش اللبنانيين في النظام إياه، وبالصيغة ذاتها، وبإصرار الجماعات على اعتماد الذهنية ذاتها، حالة متكررة لكل مراحل الانهيار التي يمرّ اللبنانيون فيها، أي قمة العبث والجنون والمهزلة. فإن أراد اللبنانيون الكفّ عن تكرار المهزلة، توجّب عليهم البحث في إمكانية تغيير قواعد اللعبة، وأبرزها كيفية تخطّي امتيازاتهم كجماعات في النظام، والعمل على تأسيس دستور وقوانين لا أعراف تفخيخية فيها، قوانين تقوم على الفرد لا على الجماعة، من الأحوال الشخصية إلى المنظومات التربوية، من الحقوق إلى الواجبات تجاه الدولة، انتهاءً بدور فعّال للدولة يقوم على مصادرة كل الأسلحة غير الشرعية التي تفرض أمرا واقعا متفجّرا. فهذا المختبر التاريخي بات ضرورة وحاجة ملحة للكفّ عن إعادة إنتاج شروط المهزلة.