الكيدية السياسية تعزل لبنان مجدّداً

03 يونيو 2021
+ الخط -

ذكر مصدر فرنسي رفيع المستوى أن المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس لدعم السودان خرج بمساعدات تفوق الخمسة مليارات دولار. ولافتٌ أن هذه المساعدات كان يمكن أن تكون من نصيب لبنان، لو التزم سياسيوه بتنفيذ مقرّرات مؤتمر سيدر آنذاك، ونفّذوا الإصلاحات المطلوبة. أقرّت الدول المانحة والداعمة نيتها تقديم المساعدات للبنان عبر عقد مؤتمر سيدر الدولي، تقدّم من خلاله القروض الميسرة والمساعدات المادية واللوجستية لإنعاش الاقتصاد اللبناني. في المقابل، انتظرت هذه الدول أن يشكل المسؤولون في لبنان حكومة حيادية، ذات صفة إنقاذية، تعمل على تقديم الإصلاحات وتكافح الفساد، وتعيد ثقة المجتمع الدولي بعد تردّي الأوضاع الاقتصادية، وتفشّي الفساد في إداراته وعبر مسؤوليه. لم يعرقل اللبناني مؤتمر سيدر فقط، بل أوقف أيضًا دعم صندوق النقد الدولي، الذي طالبه بضرورة القيام بالإصلاحات، عبر الإسراع في تشكيل حكومة إنقاذية، كي يفرج الصندوق عن الأموال الداعمة للبنان، بعد أن يحصل على ثقة المسؤولين ونياتهم الإصلاحية. ولكن عن أي ثقةٍ نتحدث، ونحن اليوم لم نر ولادة هذه الحكومة، وقد مرّت تسعة أشهر على استقالة حكومة الرئيس حسان دياب؟ كيف نريد من المجتمع الدولي أن يثق فينا، فيما الثقة مفقودة بين رئيس الجمهورية وفريقه السياسي والرئيس المكلف سعد الحريري؟ لا بل هناك حرب قائمة على اللاتفاهم بينهما، ورسائل وخطابات وحرب بيانات تُظهر أن الأزمة عميقة وطريق التشكيل صعب وشاق.

أكثر من تسعة أشهر مرّت على التكليف، ولم يتم التوصل إلى شكل الحكومة، تكنوقراطية أم سياسية أم تكنو - سياسية

يشهد لبنان حراكًا سياسيًا يصنفه بعضهم بالمبادرات الخجولة للتوجه نحو إيجاد حلحلة في مكانٍ ما لتشكيل حكومة إنقاذية، تعيد ثقة المجتمع الدولي والعربي على وجه التحديد. على الرغم من التشنج الحاصل الذي أحدثته رسالة الرئيس ميشال عون إلى مجلس النواب، إذ اعتبرت أوساط نيابية معارضة للعهد أن هذه الرسالة غير دستورية وغير ميثاقية، لأن الدستور يلحظ كيف يسمّى رئيس الحكومة، ولكنه لا يشير إلى انتزاع التكليف منه، مشدّدةً على أنّ هذه الرسالة في غير أوانها، وهي تساهم في تعقيد الأمور أكثر بدلًا من حلحلتها.

حسم حزب الله موقفه من تشكيل الحكومة، عبر أمينه العام حسن نصرالله، الذي أعطى تفويضًا للرئيس نبيه برّي، في إطلالته أخيرا، حيث رفض أي كلام عن سحب التكليف المعطى للرئيس الحريري، خوفًا من تسعير الحساسية السنّية الشيعية، فترك لحليفه الرئيس بري العمل على إدارة محرّكات التشكيل، حتى ولو سيكون ذلك على حساب خذلان حليفه الرئيس عون وطروحاته.

أكثر من تسعة أشهر مرّت على التكليف، ولم يتم التوصل إلى شكل الحكومة إن كانت تكنوقراطية أم سياسية أم تكنو - سياسية، فعِقَد تشكيل الحكومة كثيرة؛ منها الخلاف الدستوري بشأن الأحقية في تسمية الوزراء، هل هو الرئيس المكلف فقط، أم يشكلها مع رئيس الجمهورية، أم تشكّل من خلال الكتل النيابية عبر استشاراتها التي يجريها الرئيس المكلف؟ إضافة إلى عقد أخرى تبرز عند الوصول إلى حلول للعقدة السابقة، كعقدة الثلث المعطل مثلًا.

الكيدية السياسية الممارسة بين كل الأطراف هي التي تعرقل تشكيل الحكومة

يبدو أنّ كل هذه التساؤلات لا تهدف إلا للّعب في الوقت الضائع، فالكيدية السياسية الممارسة بين كل الأطراف هي التي تعرقل تشكيل الحكومة، وتزيد من عزلة لبنان. والكيدية السياسية تعود إلى سببين: الأول، عدم الرغبة لدى معارضي العهد بإعطائه أي إنجاز يذكر، بهدف قطع الطريق على طموحات الوزير باسيل في الوصول إلى سدة الرئاسة. ومنهم من يربط الكيدية بطرح الرئيس عون وإصراره على السير في التدقيق الجنائي، الذي سيطاول كلّ الذين شاركوا في الحكم منذ مؤتمر الطائف في 1989. وآخرون يعتقدون أنّ عرقلة تشكيل الحكومة قد تكون لتأجيل الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها السنة المقبلة. الثاني، ربط بعض الأفرقاء في الداخل مصير الحكومة بالتطورات الإقليمية، ولا سيما أن هناك أكثر من حدث على الساحة الإقليمية في طور التحضير، ومنها الانتخابات الإيرانية وملفها النووي. ومنهم من ينتظر الرضا السعودي، كي يبادر في تشكيل حكومةٍ لا تتعارض مع النية السعودية تجاه لبنان. وينظر بعضهم اليوم إلى هذا الموضوع من منظار انتصار محور المقاومة في غزّة، كي يقرأ المرحلة المقبلة، وما الحصاد المنتظر من هذا الانتصار.

أخيرًا، تمرّس المسؤولون في لبنان في الحكم، وفي طريقة إقناع الشعب، على الرغم من الأزمات التي يمرّ بها البلد، فأصبحت الكيدية في التعاطي من السياسات الممارسة من قبلهم. يتفنن المسؤول في إيجاد الأزمة في لبنان، كي يمارس سياسة الضغط الشعبي على معارضيه، فيما تكون حلوله السحرية حاضرة. لا يأبه المسؤول باقتناص الفرص، ولا يستفيد من تطورات المنطقة والمفاوضات الحاصلة خدمة لشعبه، بل يضع نصب عينيه دائمًا مصالحه الضيقة، حتى ولو كان ذلك على حساب تدمير البلاد، وعدم تشكيل الحكومة مثال على ذلك.