"الكلب والبرغوث" في الحقلِ المغلق لحاضنة الأسد
كان ثمّة ميل مضطرد لنشوء "مكوّنٍ علويّ مضادّ" بين نظام الأسد والمجتمع الحقيقي في سورية، بعدما غدت الطائفيةُ مُعطى وجوديّاً عزّزه حكم يدّعي العلمانية في بلد ابتُلي بلعنةِ الهوية ما قبل الدّولتية. وعليه، نجد أنّ العلاقة المركّبة بين الأسد وطائفته في مواجهة المكونات السورية الأخرى جعلت العلويين يقفون في حيّزٍ من الغموض الهوياتي وعدم اليقين الوطني. وبعيداً عن الاسترخاء لمسلماتٍ بديهيةٍ من قبيل أنّ الأسد يحتمي بالطائفة العلوية ويستغلها، ورغم أنّ في هذا الطرح رؤى متداخلة بعيدة كلّ البعد عن إمكانية إخضاعها لاختزالاتٍ مجحفة، إلا أنه لا يمكن نفي أنّ الشِقاق، وإنْ بحدوده الدنيا، موجودٌ منذ سنوات بين الأسد ومواليه، حتى ولو لم يكن معلناً، بدلالة ظهور اجتهاداتٍ جدّيةٍ للبحث عن مخرجٍ للورطة التاريخية التي يجد العلويون أنفسهم فيها اليوم، ليس بدايةً بإطلاق حملة "صرخة ضد الأسد" احتجاجاً على عدد قتلى الطائفة المرتفع إبّان النزاع، مروراً بإصدار زعمائها وثيقةً حملت اسم "إعلان وثيقة إصلاح هوياتي" التي نصّت على أنه لا ينبغي تحميل الطائفة الجرائم التي ارتكبها النظام، وطبعاً ليس نهاية بحركة "10 آب" التي بدأت ملامحها تتبلور عبر ظهور شباب من الساحل السوري، يحملون قصاصات كُتب عليها "الشباب السوري بكلّ طوائفه يقول لا للذل". مع ذلك، ليس ثمّة دليل شافٍ وقطعي على وجود استراتيجية منسّقة للأسد لإنقاذ حاضنته الموالية التي طالما امتصّت سمومه، بل على العكس تماماً، ما زال لا يوفر أية فرصة لإغراقها في مستنقع العدم، جديدها أخيراً الحديث الذي أدلى به إلى قناة سكاي نيوز عربية، والذي تضمّن التأكيد المطلق أنه إذا النظام انتهى ستنتهي سورية معه، هكذا وبكلّ بساطة ووضوح.
بالتالي، من المفيد تناول تصريحات الأسد هذه في قراءة متأنّية وعقلانية، هو الذي يعتقد أنّه يحكم دولة، رغم أنّه على رأس مافيا عائلية أقرب ما تكون إلى مجلس إدارة نفعية لشركة خاصة، أقلّه من أجل اكتشاف ما اكتشفه كثيرون منذ اندلاع الثورة السورية، أنّ الأجهزة الأمنية التي تحوّط عائلة الأسد لا يمكن أن تصنع أوطاناً كريمة. وعليه، إحدى محصلات الربط المُعمّم بين الحاضنة وبشّار الأسد أنه ما انفكّ ينافح عن نظامه السلطوي من منظور "الهبل السياسي". لذا جاء حديثه مستفزاً ومنفصماً كعادته، محمّلاً برسائل عديدة صريحة إزاء الملفات الإقليمية والدولية، وأخطر ما جاء فيه تبجّحه بأنّ التخلي عن السلطة والبلاد في حالة حربٍ هو نوعٌ من الهروب، وهذا غير مطروح أبداً. تصريح يعكس نية الأسد في رفض الحل السياسي بهدف الانتقال إلى سيناريوهات أخرى من الصراع الملتهب وإغلاق الأبواب أمام كلّ التفاهمات الممكنة. ما يعني، بطبيعة الحال، أنّ كلّ يوم يبقى فيه الأسد يعني مزيداً من "إفشال" بلدٍ كان يمكن أن يكون من أفضل دول المنطقة وأكثرها ازدهاراً ولمعاناً.
يبدو أنّ النبوءات تتحقّق أخيراً بعد تصاعد الأصوات الموالية منددّة بحكم الأسد، ولن يكون آخرها "حركة الضباط العلويين الأحرار"
بالتساوق مع ما تقدّم، وبينما يكتنف تعبير "الدولة الفاشلة" الغموض، إذ يؤخذ على هذا المفهوم بأنّه غير دقيق، ويحتمل تأويلات وتساؤلات عديدة، لكن وعبر الارتكاز على ما سبق وعلى قدر هائل من التقديرات والمقارنات الإحصائية المثقلة بانحيازات وانزياحات سياسية خلال خمسة عقود من حكمٍ فاشيٍّ مجرم، يمكن توصيف الدولة السورية اليوم بالكيان الفاشل كلياً، المحكوم بعقلية براغماتية شاذّة اعتادت المقامرة على عامل الوقت لكسب الغنائم السياسية. ولنكن أكثر دقّة.. ما يساعد فعلياً على استمرارية الوضع المأزوم استعداد الأسد نفسه للقبول بسيادة هامشية على معظم المناطق مقابل تركيز ثقله في حضن الطائفة، نوعاً من الاسترهان والحفاظ على شرعية وهمية تمنحه حق القيادة، وهنا تكمن الاستنسابية الكبرى في تصنيف سورية دولة فاشلة، رغم الالتباس والافتقار إلى الدقة في المفهوم. إذ ليس هناك مجال لإنكار أنّ ثمَّة مشكلات تكتنف مصطلح "الدولة السورية الفاشلة"، أهمها تعبير "الدولة المارقة" القائمة على الإقطاعيات الطائفية التي لا تعدّ نفسها مقيّدة بالأعراف الدولية وفقاً للذهنية السياسية الخاصة بالنظام الحاكم، الذي ما زال يتهرّب من مواجهة الأزمات الداخلية الكارثية، باعتبار هذه الاستراتيجية نهجاً أصيلاً يتفنّن من خلالها في اللعب بأوراق النفوذ الإقليمي بحكم اطمئنانه إلى ما أنتجته وفرةٌ من تجاربه القمعية للاستمرار في ترهيب حاضنته الشعبية وشلّ دورها.
الأمر الذي له دلالة واضحة في هذا السياق الشائك أنّ افتراضات ولاء العلويين للنظام تخفي واقعاً أكثر تعقيداً مما نظنّ بكثير، تمخضت عنه إحباطات عميقة بين أفراد الطائفة الذين لديهم شكوك بشأن الوجهة التي يقودهم بشار الأسد إليها. وتبدو تحركات الأخير بعد كارثة الحرائق التي التهمت البلاد مؤخراً صدمة أنعشت الموات من الموالين الذين ينتظرون، عبثاً، ضوءاً يلوح في النفق المظلم. أهم تلك التحركات زيارة الأسد محطة لتوليد الكهرباء في مدينة بانياس، ثم شركة حديثة لإنتاج اللواقط الكهروضوئية في اللاذقية. زادت الطين بلّة زيارة أسماء الأسد مصنع خياطة في ريف طرطوس، لتسهب في حديث زئبقي عن رأس المال الوطني "الشجاع" أسوة بزوجها. تمثّل، في جوهرها، هذه الزيارات، غير المفهومة أسبابها ودوافعها "ظاهرياً"، هروباً صريحاً من الاستحقاقات السياسية والأولويات الداخلية الأساسية. وتعكس الاختزال الأكثر أهمية للتعقيدات المتكاثرة على سطح الأزمة السورية وفي عمقها. على المقلب الآخر، وفي ظلّ تجاوز الأسد "المنفصم" كلّ الخطوط الحمراء وسط تقاعس المجتمع الدولي عن خلعه بالقوة، تحاول الحاضنة العلوية ترميم التشويه التاريخي الذي لحق بالبنية الاجتماعية والفكرية والسياسية لأبنائها، لإعادة صياغة علاقتها بمن حولها من السوريين، بعدما عمل النظام على جعل الطائفة بمثابة مكوّن هجين يلفظه السوريون من خلال فعالياته الدينية والبعثية. ومع كلّ مفاصل الأيديولوجيا والبروباغندا التي حكم فيها نظام الأسد على مدى نصف قرن، ومع خطر وقوع البيئة العلوية في فراغٍ سلطوي محتمل، مع هذا لا يمكن إطلاقاً تجاهل الاستحقاقات القادمة من الساحل السوري.
تحاول الحاضنة العلوية ترميم التشويه التاريخي الذي لحق بالبنية الاجتماعية والفكرية والسياسية لأبنائها
لنعد بالذاكرة قليلاً إلى الوراء. كتب طوني بدران في مجلة فورين بوليسي الأميركية، ومنذ بداية الثورة السورية، أنّ الورقة الأخيرة التي ستبقى لبشّار الأسد انسحابه إلى الجبال الساحلية. وفي السياق، نُقل عن ميشيل كيلو قوله "الخطر الذي يواجه بشّار لا يكمن في ثورة شعبية ولا في تحرّكات المعارضة، بقدر ما يكمن في طائفته العلوية التي أصبحت الحقل المغلق للمناورات". ويبدو أنّ النبوءات تتحقّق أخيراً بعد تصاعد الأصوات الموالية منددّة بحكم الأسد، ولن يكون آخرها "حركة الضباط العلويين الأحرار" التي أعلنت، ومن قلب ريف القرداحة، دعمها حركة "التحرّر الوطني" وانضمامها إلى المجلس العسكري السوري، ما أسفر عن حرائق هائلة في منطقة التمرّد لن يخفى على أحد بالطبع منفذها.
نافل القول إنه في حقل الحاضنة العلوية الملتهب يبدو أنّ نهاية نظام الأسد تسير على إيقاع نظرية "الكلب والبرغوث"، ومفادها لسع البرغوث الكلب في أكثر من مكان من جسده، فيحكّ الكلب جلده حتى يجرحه، ومن ثم تلتهب جراحه حتى تقضي عليه.