الكتابة والمنفى

24 يونيو 2023

(عبد الله ندوي)

+ الخط -

كل المنافي لا تبدّد وحشتي/ ما دام منفاي الكبير بداخلي. ... نزار قباني
***
يقول الطيّب صالح: كتبت الأدب بدافع الحنين. ... ربما هذا أحد أعظم الدوافع الذاتية للكتابة. فنحن، بعيداً عن الأوطان، نكتب لنستحضر الحنين.  
في سهرة مع صديق روائي من الخليج، سألني متفاكراً: هل الوطن يصنع الكاتب أم يصنع الكاتب وطنه؟ قال لي إنه لم يعرف داغستان قبل رسول حمزاتوف، فهذا رجلٌ صنع وطنه. قلت له: وخالد حسيني/ الرجل الذي صنع أفغانستان التي تختلف عن التي نراها بلون التراب في الأفلام الأميركية وتمخر فيها الهمر العسكرية.
تلك تجربة الطيّب صالح. الذي كشف للعالم بلاداً ثرية مدهشة. كشف جانباً واحداً منها. جانب حياة العرب في الشمال النيلي عند منحنى النيل. هذه الكوّة، بمقدار حجرٍ في سور السودان، سمحت للعالم برؤية جانبٍ مبهر أجاد الطيّب صالح تلوينه. بعده بعدة سنوات، قدّم عبد العزيز بركة ساكن سودان المهمّشين بين دارفور وشرق السودان، في روايات مثل "الجنقو – مسامير الأرض"، و"مسيح دارفور". وهي كتابةٌ بدأت في السودان، ثم تكاملت في المنفى أيضاً. مثل كتّابٍ سودانيين كثيرين، كأنما قدر الكاتب السوداني مرتبطٌ بالغربة.
هل ما قدّمه الطيّب صالح كان هو السودان أم أنه صنع سودانه الخاص؟ سنجد الحنين يقف في الطريق. وبهذا الحنين، يمكن أن نقرأ محبّة الطيب صالح الجمّة لبلاده وأهله، مع بعده الجغرافي عن أماكن كتب عنها وجمّلها قبل أن يطأها الزمان، فهذا ما يفعله المنفى بأرض الذكريات. يحفظ لها صورةً ملوّنة في الذاكرة، بينما تمشي عليها الأيادي بمعاول الهدم الرمادية. ما رجع الطيّب صالح لقريته كرمكول، ليرى كيف أكل "الهدّام" (تآكل ضفة النيل) دومة ود حامد، فذهب بها جثة إلى الشمال. ما رجع ليرى كيف فاض النيل فهدم بيت العمدة وأطاح ببنيان المسجد القديم. أمّا الذين ما نجوا من الموت فهم في أسر السن. هل أخذ المنفى الطيّب صالح أم غافله، وأخذ منه حقيقة بلاده؟ في المنفى تختلط عليك الأمور.
ما فاز به الطيّب صالح هو الكتابة. هذا ما نجا من معضلة المنفى. سيكبر إسماعيل صبير في العمر، ويتغضّن جسده، وتهتز أطرافه، ثم يموت. لكنه سيظلّ في كتابة الطيّب صالح عنه فتىً غضّاً تغني النسوة في زواجه واحدة من أجمل الأغاني التي مدحها صالح في كتابته.
البيوت التي وصفها في رواياته سيطاردها فيضان النيل، وتذوب في الماء. وعلى بعد عدّة كيلومترات، ستنشأ قرية جديدة بالاسم القديم ذاته، كرمكول. لكن القرية القديمة الغائبة ستظل حيّة، محتفظة برونقها، في رواية "عرس الزين". لن يهمّ أنها لم تعد موجودة. المهم أنها حقيقية في روايات الطيّب صالح. 
إذن، ربما نحن نبني في المنفى سوراً حول لحظةٍ معينةٍ من الوطن. ونُجمّلها كما يجمّل الإنسان الماضي. ونكتب عن هذه اللحظة، ونقول للناس هي الوطن. وربما الوطن تُعجبه صورتُه في كتاباتنا، فيصرّ أنه هذا الملوّن. أو ربما لا تعجبه. فيتهمنا بخيانته، فالأوطان متطرّفة في محبّتها وفي كراهيتها. بعض الأوطان شديدة الحساسية تجاه صورتها في كتابة بنيها. يُزعجها النقد. يقلقها ذكر القبح، خصوصا إن كان في كتابة المنفيين. لكن من الصعب في بعض المنافي أن تفرض على الكاتب ما يقوله عن وطنه.
حين نكتُب في المنفى، داخل الحدود أو خارجها، فإننا نكتب لأنفسنا، لنرتّب عالماً يقبلنا. لكن، أليست الحياة كلها منفى، بكل حدودها؟ نحن، المصابين بالخيال، منفيّون في الحقيقة. نحن، الأصحّاء بالخيال، منفيّون في الواقع.
أما الكتابة في المنفى الجغرافي فإنها تؤهلنا لاتّساع الرؤية، وقتل الرقيب المجتمعي العشائري الضيق. ذلك الرقيب الذي يتخيّل وجه جارك وهو يقرأ لك. ويعرف ردّة فعل قارئ من وطنك لا تعرفه، لكنها ثقافة القبيلة. المنفى يرفع عنا حرج أنفسنا. يجعلنا أحراراً إلا من مسؤوليتنا للكلمة وللخيال. ... لذلك ربما كنا ندين لبعض المنافي بحرّيتنا.