القوة الناعمة ودبلوماسية كرة القدم
نستدلّ بمفهوم القوة الناعمة، الذي ظهر خلال الحرب العالمية الثانية، إلى قدرة الدول على إعادة تشكيل تفضيلات شعوب الدول الأخرى من خلال مقوّمات الجذب التي تمتلكها مسبقًا أو تستحدثها، من دون الحاجة إلى اللجوء إلى العنف أو القوة العسكرية أو الضغوط الاقتصادية. يحدّد جوزيف ناي، في تنظيره عن القوة الناعمة، ثلاثة موارد رئيسة لهذه المنظومة: القيم السياسية والدبلوماسية الخارجية والقوة الثقافية. وإن كان الأصل في القوة الناعمة، من منظور مقابل للمفهوم التقليدي للقوة الصلبة القائمة على السلاح والعنف المفرط، هو الاعتماد على قدرات التمثيل السياسي والدبلوماسي للبلد بما يضمن الحفاظ على وزن دولي، وإرساء قواعد الوساطة الدولية في حل النزاعات من خلال استخدام الدبلوماسية الذكية لفهم سياق النزاعات وفهم مجتمعاتها والتدخل الإنساني لحل النزاعات أو التخفيف من وطأتها عبر قنوات تقديم المساعدات المتمثلة بالمنظمات الإغاثية، إلا أن للدبلوماسية الثقافية وملحقاتها (الفنون والرياضة والتاريخ والإرث) التأثير نفسه في الظهور الدولي وتوسيم الدولة (Nation Branding) بما يضمن تحسين العلاقات الدولية وبناء الصورة العامة. تعمل القوة الثقافية بأشكال منها الدراما التلفزيونية (النموذج التركي في الشرق الأوسط مثالًا) وصناعة السينما والأفلام (نموذج هوليوود) وترويج نسق الأغاني الشعبية من وحي ثقافة البلد بحد ذاتها، والمنح التعليمية والتدريب المموّل وغيرها، لضمان التأثير على إدراك الجمهور.
حديثًا، برز التوجّه نحو الرياضة واستغلال الفعاليات الرياضية الكبرى، مثل كأس آسيا وكأس أفريقيا وكأس العالم، بهدف تحسين العلاقات العامة الدولية من خلال توظيف الرياضة في نشر الثقافة المحلية للبلد المضيف لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وتجارية وثقافية.
توسيم الدولة
تسعى الدول، من خلال استضافة الأحداث الرياضية الكبرى، إلى تسويق المنتج الثقافي والقيم والعادات والتقاليد وأسلوب العيش، بما يشمل الطعام واللباس والبناء والرفاهية والإرث المجتمعي والحضاري أمام الزوّار وصنّاع نماذج العلاقات العامة في الدول الشريكة. وفقاً لنظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity)، تعزّز الأحداث الرياضية الشعور بالانتماء بالنسبة لمواطني الدولة المضيفة، وتطلعهم على جوانب خفية من هويتهم الوطنية؛ وتدفع الزوّار إلى التماهي، بشكل أو بآخر، مع المجموعات الثقافية المحلية والمجموعات الأخرى المشاركة. وبهذا، يكمن المكسب في تصدير صورة الاحتواء والمشاركة وإيجاد نوع من الذاكرة الجمعية لدى الزوّار تجاه البلد المضيف والجماعات البشرية الموجودة فيه.
يعود الربط بين السياسة والرياضة إلى المنافسات الرياضية في اليونان القديمة، لتصل بتطوّرها إلى الألعاب الأولمبية
أوجدت روسيا عام 2018 قنوات حوارٍ مع شعوب العالم، وكانت في حاجةٍ إلى هذه القنوات، بعد ترويج الصورة التي رسمها الغرب حول الشعب الروسي دمويا وعدوانيا، ومتعصّبا ومنغلقا على قوميّته السوفييتية، وأن القوة العسكرية هي ما يحتكم إليها الروس؛ خصوصا بعد تدخل روسيا في شبه جزيرة القرم وتدخلها في حرب سورية عام 2015.
بإضافة إلى ذلك تعيد الدول التي تستضيف الأحداث الرياضية الكبرى، البرازيل وجنوب أفريقيا، وروسيا أخيرا، وقطر حاليًا، موضعة ذاتها واجهات سياحية تمتلك المقومات الصحيحة من عمران وطبيعة وتاريخ وطبيعة سكّان، بما يضمن استدامة رفاهية قطاع السياحة بعد انتهاء الحدث الرياضي.
بين السياسة والرياضة
تاريخيًا، يعود الربط بين السياسة والرياضة إلى المنافسات الرياضية في اليونان القديمة، لتصل بتطوّرها إلى الألعاب الأولمبية واستخداماتها لترويج سياسات الدول من خلال المهرجانات المرافقة واستغلال فرص الفوز لإظهار القوة وبناء صورة المَنعة. كان أدولف هتلر قد استخدم دورة الألعاب الأولمبية عام 1936 لتوحيد ألمانيا خلف قيادة الحزب الاشتراكي الوطني، ولتعزيز الهوية الداعمة للنازية. نضيف إلى ذلك أن نيلسون مانديلا استخدم الرياضة لتوحيد جنوب أفريقيا، مطلقًا شعار "الرياضة لتغيير العالم"، بعد ما شهدته البلاد من حوادث فصلٍ عنصري.
تستفيد الدول من الأحداث الرياضية الكبرى لفرض وجود حكوماتها سواء على الجمهورين، المحلي والعالمي؛ من خلال توظيف قطاع المال والأعمال وقطاع السياحة وقطاع الإعلام والدعم الحكومي وإدارة التنوّع في عملية الترويج وتوسيم الدولة.
يقلّل السياسيون والعسكريون من قدرة الدبلوماسية على تعزيز (وتحسين) صورة الدول ومصداقيتها وقدرتها على المنافسة الاقتصادية. كانت نسخة 2018 من كأس العالم مخرجًا لروسيا من عزلتها الدولية، بأسلوبٍ غير عنيف، حيث هدفت موسكو إلى زيادة نفوذها، وتجديد صورتها، وتأكيد نفسها في القضايا الدولية الرئيسية، لا سيما وأن تراجع القوة الغربية أوجد فراغاتٍ على الساحة الدولية، وكان من الضروري بالنسبة لموسكو إعادة ترتيب أوراق القوة الدولية، ودخلت من بوابة كأس العالم.
استطاعت روسيا جمع الدول على أرضها بوفود دبلوماسية ورسمية، وتم عقد مؤتمرات واتفاقيات اقتصادية عديدة على هامش فعاليات كأس العالم
يرى جوزيف ناي أن الانتصار في عصر المعلومات لا يعود إلى قوة الجيش، بل إلى قوة الرواية ونضجها والقدرة على الإقناع. كانت نسخة كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا فرصة حقيقية للدولة لتسليط الضوء وتوجيه الأنظار إلى أفريقيا التي خنقتها عقودا طويلة سياسات الفصل العنصري والحروب الأهلية، وأدّى التغلب على قضية الفصل العنصري وتمثيل الوحدة الأفريقية إلى تحديد نغمة خطابات قادة جنوب أفريقيا وتوحيدها في تقارير الآليات الدولية. كانت هذه مطالب جنوب أفريقيا، كأس العالم الأفريقية. الأمر الذي دفع الإعلام العالمي إلى إعادة رسم معالم الخطاب الموجّه نحو الدول الأفريقية، وسلطت الضوء على مشكلات الدول التي ظلت عقودا طويلة، ولا تزال، تحت وصاية الدول الأوروبية، وأعادت فتح ملفاتٍ لم تكن وسائل الإعلام العالمية تتطرّق إليها، خصوصا فيما يتعلق بالحروب الأهلية والخطاب العنصري الموجّه ضد مواطني القارّة السمراء.
استفادت روسيا من الإرث السوفييتي في تطوير ملفت في ملف الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) واستضافة كأس العالم لنسخة 2018 لتعزيز القوة الناعمة وإعادة صياغة التصوّرات الدولية للإرث السوفييتي على المسرح العالمي، وتغيير الصورة النمطية العنيفة عن الشعب الروسي، في نوعٍ من الدبلوماسية الرياضية.
استطاعت روسيا جمع الدول على أرضها بوفود دبلوماسية ورسمية، وتم عقد مؤتمرات واتفاقيات اقتصادية عديدة على هامش فعاليات كأس العالم. وخلال مونديال روسيا، وبسبب قوة خطاب الرئيس بوتين في السيناريو العالمي، تناولت وسائل الإعلام الدولية قضايا مثيرة للجدل، مثل توزيع الدخل، والعنف الحضري، والنفقات العامة، والشفافية في المؤسسات الروسية، وعنف الشرطة والجيش في أماكن التوسّع والانتشار الروسيين، والفساد، وملفات التحسين وتطوير الأداء الإداري والسياساتي العالمي، وغيرها وفق منظور مغاير لما كانت عليه قبل 2018.
إحدى أهم وأعنف القضايا التي ناقشتها وسائل الإعلام حينها كانت مشاركات روسيا في الحروب الخارجية، مثل الحربين في سورية وفي ليبيا، وحوّرت خطابها النقدي ليصبح أقلّ حدّةً حيال سلوك روسيا العدواني في البلدين، وأبدت حيادًا في موضوع خطة روسيا الاستراتيجية والتوسّعية على حساب شبه جزيرة القرم عام 2014.
تكمن قوة كأس العالم 2022 بقدرته على ترويج صورة قطر وقدرتها على جمع مختلف الأعراق والأجناس
وفي الوقت الذي تواجه فيه ملفات عديدة تتعلق بتهم دعم الإرهاب واتهامات تتعلق بملفات حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، تستخدم دولة قطر فرصًا جديدة في المجال الرقمي لترويج السردية التي من شأنها تقويض رأي الحكومات الغربية وسرديتها التي لا تريد لحدث رياضي أن يتم في أرض عربية في الشرق الأوسط الذي يعجّ بالمشكلات والنزاعات؛ سواء من خلال وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية أو البرامج التعليمية والثقافية والترفيهية أو العمليات عبر الإنترنت. تمتلك دولة قطر أهم منصّة إعلامية رياضية، وهي شبكة بي إن سبورت Bein Sport، والتي تمتلك حقوق نقل لأضخم الأحداث الرياضية العالمية، ومنها كأس العالم، والتي كانت قد تعرّضت للقرصنة في أثناء حصار قطر الرباعي بين عامي 2017 و2021.
تستفيد قطر من استضافة نسخة 2022 من كأس العالم لتطوير ملفات كبيرة على مستوى الانفتاح على العالم وخلق مكانة بين الدول الكبرى وإتاحة المجال أمام السوق القطرية للدخول والمنافسة في الأسواق العالمية بقطاع المال والأعمال والتنمية المستدامة، بالإضافة إلى التنمية المحلية وتطوير القطاع الإداري وقطاع صنع السياسات على جميع الأصعدة.
تكمن قوة كأس العالم 2022 بقدرته على ترويج صورة قطر وقدرتها على جمع مختلف الأعراق والأجناس ومساهمتها في إعادة صياغة المنتوج الثقافي لمنطقة الشرق الأوسط عبر تصدير ثقافة التنوّع والتعدّد. تظهر الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط مساعي دولة قطر إلى إبراز صورة التطور الديناميكي على مستوى السياسة الداخلية والخارجية للدولة، والذي ينعكس على أداء قطر الدبلوماسي في أكثر الملفات تعقيدًا في المنطقة، ولا سيما الملف الفلسطيني وملف أفغانستان وملف مكافحة التطرف والعنف الدولي وملف المساعدات الإنسانية الإغاثية. ولذا، فإن استضافة كأس العالم برهنة على ثبات الدولة ومنظومتها السياسية والدبلوماسية في أهم الأحداث العالمية.
من خلال بوابة الدبلوماسية الرياضية، تستطيع دولة قطر إثبات قدرة الدول العربية على إحداث نقلة نوعية في عملية صنع السلام
تفنّد استضافة قطر كأس العالم 2022 الرواية الأوروبية في ملف دعم الإرهاب وانغماس المؤسّسات القطرية في دعم حركات جهادية وإسلامية، وتفتح الباب أكثر للعالم للتعرّف على طبيعة عمليات دولة قطر ومساهماتها في الحدّ من انتشار الإرهاب على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
قبيل انطلاق كأس العالم 2022، دعمت دولة قطر مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب بـ15 مليون دولار، لتكون بذلك من المساهمين الفاعلين في تعزيز نجاعة خطط الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب حتى عام 2026. تساهم استضافة دولة قطر لكأس العالم 2022 في تحسين الصورة المرسومة عن المنطقة العربية أنها منطقة نزاعات وحروب، ولا سلم فيها مطلقًا. ومن خلال بوابة الدبلوماسية الرياضية، تستطيع دولة قطر إثبات قدرة الدول العربية على إحداث نقلة نوعية في عملية صنع السلام، وصنع مبادرات لتسوية الخلافات في المنطقة.
داخليًا، تروّج قطر من خلال كأس العالم صورة جيدة للمؤسسات القطرية وقطاع الخدمات والبنية التحتية من خلال تقديم خدمات هائلة في المنشآت الرياضية الخاصة بكأس العالم، والتي جرى إنجازها في مدّة قياسية. يفتح كأس العالم الباب أمام شركات الخدمات وشركات التطوير العقاري القَطرية للامتداد عبر إقليم الشرق الأوسط والعالم، بعد إثبات نجاعة الخطط التطويرية والتنموية التي جرى العمل عليها للتحضير لكأس العالم. الأهم هو عملية الربط بين هذه المنشآت من خلال تنفيذ مشاريع الجسور والمحاور لتنفيذ خدمات نقل المنتخبات والمشجعين من مدن الدولة إلى الملاعب.
تنتظر قطر فرصةً ذهبيةً لترويج صورة حضارية ومدنية بخطط اقتصادية وسياسية، تم العمل عليها استكمالًا للتوجيهات الأميرية بدءًا من عام 2005 بعد الالتفات إلى أهمية الرياضة في عملية موضعة الدول، وإيجاد مكان لها على الساحة العالمية.