القوانين والقيم بين المرونة والصرامة
في الأدبيات الدولية العامة، يتطلب احترام النظم وجود بيئةٍ يتمكّن فيها البشر من إطاعة القانون، لاعتقادهم أنه يلبّي عادلا احتياجات الجميع، أفرادا ومجتمعات، بحيث تتاح للجميع فرصٌ متساويةٌ للاحتكام لتلك النظم التي من واجبها إنصاف الجميع من دون تحيز؛ هده النظم منها ما هو موضوع كقوانين رسمية مفروضة من الدولة، ويخضع مخالفوها لعقاب محدّد مسبقا، أو منها ما هو محدّد كتقاليد وأعراف اجتماعية (قد لا تكون منصفة، وقد يكون فيها كثير من التمييز والتحيز) ستكون عقوبة مخالفيها غير معروفة أو محدّدة، ذلك أنها تتبع هوى المجتمع وميله في هده اللحظة أو تلك.
وغالبا ما تكون ردود أفعالنا، نحن البشر الخاضعين للقوانين الرسمية والنظم المجتمعية، تجاهها متقلبة ومختلفة حسب مكاننا ومكانتنا والآخرين منها، فمثلا سوف تختلف ردّة فعلي على وجود إشارات السير، خصوصا في البلاد التي لا تتمتع بأنظمة سير صارمة. حسب موقعي، إن كنت أمشي وأعبر شارعا سريعا بين مركبات مسرعة فسوف أتذمّر من سرعة أصحاب المركبات الذين لا يتركون فرصة للمشاة أمثالي للسير بأمان. وإن كنتُ أقود مركبة في الشارع نفسه، فسوف أتذمّر من المشاة الذين يعبرون بين المركبات السائرة من دون انتظار توقفها. أنا نفسي في المكانين والحالتين، ونفسي من قوانين السير، لكن التزامي بهذه القوانين وعلاقتي بها تتبع موقعي منها الآن، طبعا في البلاد المحكومة بقوانين صارمة لا مجال للتفكير بشيءٍ كهذا، فسوف ألتزم بإشارات السير المحددة. وهو ما استغربه مني ومن الآخرين، فنحن نلتزم بالقوانين في البلاد التي تطبقها بحرص، بينما نصبح أكثر ميلا ورغبة لمخالفتها في البلاد التي تتساهل في تطبيقها. هل الخوف من العقوبة المستحقّة هو الرادع؟
ذات يوم، في شارع رئيسي مزدحم في القاهرة، كنت أنتظر أن تتوقّف الإشارة الخضراء كي أعبّر حين اقترب مني شرطي المرور، وأخد بيدي وأوقف المركبات العابرة بيده الثانية، رغم الإشارة الخضراء التي تعطيها أحقية السير، وأخذني إلى الجهة الأخرى من الشارع. ابتسمت له وشكرته جدا، ومضى نهاري سعيدا بهذه اللفتة الجميلة التي حدثت من دون أن أكترث للغضب الذي حتما شعر به سائقو المركّبات في هذا الموقف الغريب. نتجت سعادتي عن الامتياز الذي حصلت عليه من مخالفة قانونٍ على يد من يفترض أنه يحميه. يحدُث الأمر نفسه عند يتمكّن أحدنا من تجاوز دوره في طابور طويل عند إجراء معاملة رسمية، بسبب رشوة أحدهم. نحن نفعل هذا ونسرّ به، رغم معرفتنا التامة أنه مخالف للقانون، لكنْ في هذه المخالفة تمايز وتمييز لصالحنا. لذا نحن لا نكترث لقلة الأخلاق في سلوكٍ كهذا. تصبح الأخلاق هنا مرنة وقابلة للتلاعب بها.
ينطبق الأمر نفسه على التقاليد والنظم المجتمعية، (دائما أحكي عن مجتمعاتنا العربية ونظمها وقوانينها، كون القانون فيها منحاز ومثله القيم المجتمعية)، حيث إن ردّة الفعل المجتمعية على سلوك ما ستصبح نقيضها إن كان هذا السلوك من شخصيةٍ مشهورة أو من طبقة اجتماعية عالية، نتذكّر جميعنا الارتباط بين عمرو دياب ودينا الشربيني، جمعتهما علاقة حب صارت من أشهر قصص الثنائيات في الأعوام الماضية، وعاشا معا من دون أن يرتبطا رسميا ومن دون أن ينفصل عن زوجته. كانت قصتهما ملهمة للملايين الذي تعاطفوا معهما وحزنوا لانفصالهما لاحقا. ذبح الملايين أنفسهم نيرة أشرف مرة ثانية (بعد ذبحها بيد شاب مجرم) لمجرّد أنها اختارت أن تعيش حياة ترتد فيها عن طبقتها الاجتماعية المتوسطة. ثمّة امتيازٌ ممنوح للمشاهير والأغنياء في ممارسة الأخطاء و"الآثام" والردّة عن القيم والتقاليد المجتمعية، آثام يجرى تجاهلها ومباركتها، فهي تصدُر عن السلطة (الشهرة والغنى يمثلان سلطة قوة)، وكل ما يأتي من السلطة تجب مباركته. أما آثام الشعب (الطبقات المتوسّطة والفقيرة والمغمورون) فهي قاتلة، حتى لو كانت أقل وطأة بكثير من آثام السلطة، وتصبح الأخلاق معها صارمة جدا ومتينة، ولا يمكن التساهل في الردّة عنها.
في القوانين الرسمية أو في القيم التي تتفق عليها المجتمعات، إن لم تتحقق العدالة ويتساوى الجميع معها، فثمّة موضع للخلل سوف يؤدّي إلى دمار ما يجعل من هذه المجتمعات متخلفة أو نامية، يعيش أبناؤها تائهين بين منظومة قبلية رجعية وأخرى تتطلع نحو المدنية الحداثية بكل ما فيها.