القرضاوي... مات المثال
شيخٌ لا يصرخ.. لا يتشنّج.. لا يغترب بدينه عن عصره.. ولا يعتسف وفاقا بين مبادئه وبين ما يناقضها ادعاء.. ولا يصمّ أذنيه دون ما يختلف عليه الآخرون.. شيخ ينتمي للعقد الفريد الذي ينتظم فيه كحبّات اللؤلؤ أعظم مشايخ الإسلام.. نمط فريد، ليته يكون شائعا، فالمأساة الحقيقية هي أنه فريدٌ نادرٌ عزيز التكرار. هكذا تكلم أسامة أنور عكاشة عن يوسف القرضاوي في مقال بعنوان: "وهذا شيخٌ لا يصرخ"، نشرته صحيفة الوفد المصرية (7 يناير/كانون الثاني 2001).
عزيزي القارئ الغاضب، خذ إجازة، ولو دقائق، من المرارات الأيديولوجية، وحسابات الانحيازات والمغايظات والخوف (أو الرعب) من التصنيف، وتعلّم من مثقفٍ حقيقيٍّ مثل أسامة أنور عكاشة، كيف تفرّق بين أصحاب الهم والقضية، ولو اختلفوا معك، وبين الخصم أو العدو الحقيقي... يوسف القرضاوي من مواليد 1926، مثلت سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته فترة نضجه وبروزه، وفيهما أغلب كتبه "المهمّة". جاء القرضاوي من زمن الإصلاحيين والنهضويين، فهو تلميذ الكبار محمود شلتوت ومحمد البهي ومحمد عبد الله دراز وغيرهم. سؤال المعرفة يسبق سؤال الأيديولوجيا ويوجّهه. واجه القرضاوي تحدّيات أمته، من ناحية، ومشكلات فصيله من ناحيةٍ أخرى، وساهم في الإجابة على سؤال التقدّم بقدر ما ساهم في ترشيد أسئلة الصحوة وإجاباتها. من هنا، يمكننا فهم القرضاوي، الفقيه والمناضل. كانت سبعينيات القرن الماضي، لأسبابٍ سياسيةٍ، فترة القطع مع تراث النهضويين وتهميش سؤال التقدّم، وربما اتهامه، لصالح أسئلة الهوية التي جاء أغلبها عصابياً ومفتعلاً، وجنح شباب الحركات الإسلامية إلى التطرّف بوصفه معادلاً دينياً للاستبداد السياسي، عنف بعنف، تراجع العالم الأكاديمي لصالح الواعظ الشعبوي، وكان "النموذج" هو الشيخ عبد الحميد كشك، رحمه الله. وعبثاً حاول أصحاب "التخصّص" من العلماء والمفكّرين (خصوصاً الإصلاحيين) أن يجدوا لهم مكاناً، من دون جدوى، حتى أبناء الحركات الإسلامية، من العلماء، وما أقلّهم، عجزوا عن الوصول أو التأثير بأصواتهم، وسط صخب الشباب وشغبهم، الذي شكا منه، غير مرّة، وكتب عنه، متألماً، الشيخ محمد الغزالي.
وحده القرضاوي استطاع أن يفعلها. لم يكن فقيه الصحوة فحسب، كان "أذكى" نقّادها. لم يكن من هؤلاء الذين يكتفون بتسجيل مواقفهم، لله والوطن والتاريخ، ولا يعنيهم أن يصلوا، أو يحقّقوا شيئاً، كان يكتب عن التغيير، ويطمح إليه، ويشارك في إحداثه، ويخطئ ويصيب، قدر جهدِه ودأبه وتورّطه. واجه القرضاوي "ذهنية التحريم" وأصحابها ونقّادها على السواء. وكتب، مبكّراً عن الحلال والحرام، وتجاوز إسهامه، في هذه النقطة، كتابه الشهير، والمزعج للمتطرّفين "الحلال والحرام" إلى مشروعه كله، حيث نجح القرضاوي، بشكلٍ لافت، في تشكيل ذهنيةٍ جديدةٍ، لدى قرّائه من الشباب، يعرفون بها ما الحرام، من دون غيره، ويتحرّكون مع الدين، وبه، وإليه، من دون خوف، من عذاباتٍ متخيّلة، أو أغلال متوهمة. استعاد القرضاوي "حقّ" التجديد، في بيئةٍ تتوجس من مجرّد طرح الكلمة، ولا تتورّع عن التصريح بذلك، وهو تصريحٌ شهيرٌ للشيخ محمود شاكر، نفى عن التجديد تهمة التغريب، ومحا عن التغريب وصمة الشيطنة، وفرّق بين النافع والضارّ، في تراثنا، وفي واقع الغربيين، على السواء.
واجه القرضاوي، مع غيره من الإصلاحيين، خطر العنف والتطرّف والإرهاب. وكان كتابه "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف" في سياقه، الأكثر تأثيراً في قطاعاتٍ كبيرةٍ من الشباب المتديّن، حتى أنّ الدولة المصرية، على موقفها العدائي من القرضاوي، طبعت الكتاب ونشرته ووزّعته على مساجد الأوقاف وغيرها، وساهم الكتاب في حماية آلاف الشباب من الانجراف إلى جماعات التكفير، وهو الكتاب نفسه الذي اعتمد على "مادّته" بعض أبناء هذه الجماعات في مراجعاتهم (من دون الإشارة إلى صاحبه). كان القرضاوي جسر الإصلاحيين إلى الصحويين، وساهم، بواقعيّته، في ترشيد قطاعٍ من الصحوة، وإعداد النابهين من أبنائه إلى مزيدٍ من التعاطي مع أفكار زمانهم، وتجسير المسافة بينهم وبين الحداثة، ولولاه ما تجاوزه كثيرون من نقّاده اليوم، أو المتنكّرون له ولدوره، في زمنه وسياقه.