القابلية للاستقطاب السياسي

04 اغسطس 2022
+ الخط -

لم تكن البلدان العربية ومجتمعاتها المتداخلة اجتماعياً وسياسياً في منأى عن الاستقطاب السياسي المجتمعي والنخبوي، خصوصاً بعد نجاح الثورات العربية، وارتداداتها في السنوات العشر الأخيرة، بين قوى داخلية تريد التأثير في المشهد السياسي الداخلي، وقوى إقليمية متداخلة في تلك الدول استقطاباً ومصلحة، وحتى أجندة، ناهيك عن تحقيق رؤى مشاريع استبدادية، أو حتى نهضوية في المجتمع الداخلي على حد سواء، فالكلّ يحاول أن يستقطب في المجتمع، أفراداً أو حتى كيانات سياسية، وصولاً إلى هيئات ومؤسسات رسمية في هذه الدولة أو تلك، فالاستقطاب السياسي، وإن كان يشير إلى تباعد أو حتى انقسام سياسي في المجتمع، فإنّ مداخله تكون مقرونة كذلك بالمصالح المكتسبة للمستقطِب، وبالتالي تسعى الكيانات السياسية إلى استقطاب مؤيدين وأتباع لها، لتحقيق مصالحها، وإنْ كان هذا لا يضرّ بالعملية السياسية المبنية على أسس وقواعد دستورية ومجتمعية، خصوصاً في البلدان التي يكون فيها شيء من الاستقرار، فإنّ البلدان التي ما زالت تحاول مقاومة الثورات المضادّة، يكون الاستقطاب فيها من الخطورة بمكان، خصوصاً الاستقطاب المصلحي النفعي المحدود بأفعال آنية ووقتية قصيرة المدى، وتتعدّد فيها الاستقطابات، وتتحول، بحسب الحالة والمصلحة الآنية والوقتية.

ومن المشاهد اليوم في البلدان التي قامت فيها الثورات انتشار القابلية للاستقطاب، بكلّ أبعاده، بداية من الاستقطاب السياسي، وليس انتهاء بالأمني واستعمال القوة، وحتى الاستقطاب المجتمعي، وذلك كله تقوده المنفعة الوقتية بفعل المادة أو المصلحة المكتسبة بفعل هذا الاستقطاب، الذي يدور في دائرة المستقطب له، حتى تنتهي الحاجة له أو منه، باعتباره غير متماسكٍ، ولا توجد منهجية فكرية ولا حتى عملية أوجدت هذا الاستقطاب، وإنما تقوده المصالح الضيقة، لا الحالة الفكرية التي عادة ما تكون مصدر الاستقطاب الطبيعي.

انتشار القابلية للاستقطاب، بكلّ أبعاده، بداية من الاستقطاب السياسي، وليس انتهاء بالأمني واستعمال القوة، وحتى الاستقطاب المجتمعي

لا يمكن قراءة (أو دراسة) هذا الاستقطاب أو القابلية له في بلدان الثورات بالطرق النمطية الطبيعية للوصول إلى تقييم حالة هذا الاستقطاب ومآلاته، وذلك لأنه لا يعتمد على آليات محدّدة يمكن أن تُفهم أو تُقاس باستطلاعات الرأي، أو الدراسات الاستقصائية أو حتى الخلفيات السياسية، باعتبار أنّ ذلك غير ممكن، إن لم يكن غير موجود أصلاً، لأنّ الاستقطاب في حدوده الطبيعية يتطلب تبايناً كبيراً في قضايا كثيرة، وإنما التوصيف الطبيعي له هو أشبه ما يكون بالتحالفات غير متزنة بحسب الحاجة، والمتغيرة مع أدنى تغيير في العملية السياسية في تلك البلدان.

ولعلّ الاستقطاب الأمني المسلح هو أشد خطورة على هذه البلدان الناشئة نظاماً وتكويناً، وذلك لكونه لا تحكمه القناعات الفكرية أو العقلية أو حتى الرؤى والمشاريع السياسية، وإنما تحرّكه وتؤثر فيه الولاءات السياسية الداخلية منها والخارجية، والتي عادة ما تكون مقرونة بأهداف مصلحية في حدود ضيقة لا تقيم وزناً لمصالح الدولة، بقدر ما تحكمها ولاءات المصلحة وتحقيق أهدافها، وإن كان ذلك يجعل للعامل الداخلي مصلحة له في هذا الاستقطاب في وقت ما، إلا أنه على الأمد البعيد سيكون أول الخاسرين، فمن يتغلب على الآخر ويراهن على الإلغاء له سياسياً باستقطاب داخلي أو خارجي، فإنّ المعادلة ستنقلب في وقت آخر، وتتغير الاستقطابات الآنية بأخرى قصيرة، في دورة مستمرّة، لا تبني نظاماً سياسياً، ولا يستقر معها نظام مجتمعي، ناهيك عن تكوين الدولة وإرساء بنيانها.

القابلية للاستقطاب الآني في المجتمع لا بد أن توجد مقابلها أضداد فكرية تمنعه، حتى لا يتحوّل إلى فكرة مستدامة وعمل مرغوب في الفضاء السياسي، وحتى المجتمعي، باعتباره مرضاً عضالاً تنتشر معه الأزمات ويطول أمدها، وتتعمق معه الاختلافات، بل قد تقود إلى خلافات حادّة وصراعات مسلحة وفق المصلحة التي أوجدت هذا أو ذاك الاستقطاب. وبالتالي، القابلية للاستقطاب المصلحي، إن جازت التسمية، لا يمكن اجتثاثها إلّا بتعزيز الثقافة وإعمال الفكر، وتقديم مشروع يبني الأوطان على أساس سليم بإرادة داخلية، بعيداً عن الاستقطابين، الداخلي والخارجي، متعددي الولاءات والاتجاهات التي تفسد ولا تصلح.