القابلية للاستبداد ..
ليس من غرض هذا المقال أن يقدّم استعراضا لأفكار ومحتوى كتاب هشام علي حافظ وجودت سعيد وخالص جلبي "كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد" (دار رياض الريس للنشر والتوزيع، بيروت، 2020)، على تنوع مادته، وعمق رؤيته، بل الإشارة إلى المفاتيح التأسيسية في الظاهرة الاستبدادية؛ فمفتاح القابلية للاستبداد إنما يعبر عن حقيقة الاستبداد بين فاعل وقابل، ذلك أن المستبدّ لا يستطيع أن يرسّخ منظومة سلطانه وطغيانه، من دون تلك البيئة القابلة للاستبداد، والتي تتحكّم فيها عناصر كثيرة، تتداخل بعضها مع بعض فتحكم شبكتها وحالتها، باعتبار أن هذا الوسط إنما يشكل العامل الأكبر في وجود الاستبداد واستمراره، وأن مواجهة الاستبداد لا يمكن بأي حال أن تكون فعّالة ومؤثرة، إن لم تكن لدينا القدرة على تفكيك تلك العوامل التي تشكل بيئته وترسخ القابلية له.
ولعل فكرة "القابلية"، والتي أشار إليها مالك بن نبي، في كتبه التي تتعلق بعملية التغيير والنهوض، حينما تحدّث عن الاستعمار وخطورة القابلية للاستعمار، وكأن لسان حال هذا المفكر الجليل كان يؤكد أن لكل ظاهرة قابلية، وأن عالم القابليات هو الذي يمكّن للظاهرة استقراراً واستمراراً، وهي أمورٌ تجعل، مع طول الأمد، أن يقوم المستبد وبطانته بجهد قليل في تحريك تلك القابليات والحفاظ عليها ضمن منظومة التمكين للطغيان والاستبداد، وإحكام الحلقة الجهنمية التي تتعلّق بدوام الطغيان وسحق الإنسان، بل وتخريب معنى العمران في كل جنبات المجتمع؛ بحيث يكون الاستبداد العنوان الذي يتحكّم في مستقبل البلاد والعباد.
الكيانات التي ترتبط بالشعوب والجماهير حينما تتآكل مناعتها في مواجهة هذه الظاهرة الاستبدادية، فإنها تمرّر أمراضا اجتماعية وسياسية خطيرة
تشير مسألة "القابلية" إلى أساليب تتعلق بالتنشئة الاجتماعية والسياسية، والتي تجعل من تلك القابليات أمرا محكما، يجعل من الاستبداد طقسا طبيعيا في حياة الناس، وقبول الظلم شأنا مستمرا من هؤلاء الذين يتكيفون ويتعايشون مع تلك البيئة الاستبدادية بكل قابلياتها ومداخل استمرارها ومسالك استقرارها، فيبدو الأمر ضمن "معادلة الاستخفاف"؛ إذ تشير إلى هذا القانون المهم الذي يحتاج بحق إلى تدبّرٍ في مسالكه وتفحص تبعاته، بشأن إحكام تلك الحلقة الطغيانية والاستبدادية. ومن هذه الأمور التي تمكّن للقابلية للاستبداد ما يتعلق بنشر الجهل والتعتيم وعمليات تكريس وعي زائف يصل، في النهاية، إلى قبول التمرير لكل تلك الممارسات الاستبدادية، وقبول كل عمليات التغرير والتزوير، ليس فقط باعتبارها أمرا واقعا، ولكن أيضا في سياق صناعة حياة يحيط بها جدار من الخوف المرضِيّ المفضي إلى تجريف أي عملية تغيير، وترسيخ معاني الاستقالة الحضارية ووأد الفعاليات النهضوية، في إطار تشجيع أنماط من التنشئة، تحرص على ذيوع كل الصفات القبيحة والسلبية التي تُمكّن للمستبد استمرارا واستقرارا.
وربما تدعم هذا الشأن وترسّخه صناعات الإعلام الكاذب؛ من خلال أجهزة الإلهاء التي قد تقوم وفق سياسات معدة سلفا لصرف الانتباه عن القضايا الحقيقية والأسباب الأساسية التي تمكّن من حال استعبادهم، والاستبداد بهم، وجعل هؤلاء من عموم الناس وأفراد الشعب مشاركين في الصناعة الاستبدادية الكبرى؛ من خلال عمليات تطويع متواليةٍ وتمرينات إذعانٍ يومية، وكذا تُمكِّن لحالة القطيع التي لا يمكنها بأي حال إلا أن تستمرئ هذه الحال في العيش في الاستبداد، وعدم اتخاذ أي سبلٍ لمقاومته، أو السعي إلى طلب الحرية، أو العمل على تفكيك مفاصل الطغيان. ولعل أفضل ما في كتاب "كيف تفقد الشعوب مناعتها ضد الاستبداد" عنوانه، بما يؤكد على هذا السؤال المركزي الذي يشكل شيفرة "الصناعة الاستبدادية" ضمن تلك العمليات التي ترتبط بقابليات الاستبداد والإبقاء عليها وترسيخ مسالكها حتى يضمن المستبدّ وبطانته؛ الاستمرار في تلك الحالة الاستبدادية من دون بذل جهود كبيرة لبلوغ الغاية في استدامتها.
أما المفتاح الثاني ضمن هذا العنوان فإنما ينصرف إلى هذا الأمر الخطير الذي يتعلق بـ"فقدان المناعة"، ذلك أن الكيانات التي ترتبط بالشعوب والجماهير حينما تتآكل مناعتها في مواجهة هذه الظاهرة الاستبدادية، فإنها تمرّر أمراضا اجتماعية وسياسية خطيرة، تسكن هذا الكيان وتتمكّن منه، وترعى فيه، وتؤدّي إلى مزيد من انهيار مناعته، على طريق انعدام القدرة على مواجهة الأمراض التي تتوطّن في جنبات المجتمع، فيشكّل ذلك تمريرا لحال الاستبداد وسياساته الطغيانية من غير مقاومةٍ تذكر، يغلف ذلك أبعادًا كثيرة، من أهمها صناعات الخوف التي تمنع الحركة وتشِلها. وتبدو الأمور في حالة عجز كامل ويأس شامل، ربما لا يقوى فيه الجسد على مقاومة الأمراض، مهما كان الفيروس ضعيفًا أو خاملا، ذلك أن جهاز المناعة قد فقد وظائفه الأساسية بالتمويه عليه والخداع له، أو بالجهل والتجاهل والغفلة التي تتحكم به، أو بالدخول إلى سجن العادة والتكيف مع كل ما يضرّ الجسد، فيؤدي ذلك إلى مقدّمات لانهيار في البنيان والكيان.
الشعارات التي برزت في ثورات الربيع العربي "الشعب يريد ..." لم تكن اعتباطية، ولم تكن مجرّد تعبيرات انفعالية
أما المفتاح الثالث في هذا الشأن فيتمثل في اكتساب الحصانة، أي كيف يمكن أن تكتسب الشعوب تلك الحصانة التي تمكّنها من تفكيك قابليات الاستبداد، ومن العمل على طريق مكافحته ومواجهته. الأمر الذي يتعلق بحصانة الشعوب يتطلب عملاً كبيراً في قدرة هذه الشعوب على أن تمتلك زمام التغيير ولا تفقده في لحظة من اللحظات أو تسلمه لغيرها، ذلك أن تلك الحصانة في عالم الشعوب والجماهير إنما تكون، في حقيقة الأمر، في تربية الإرادة التي تمكّن هذه الشعوب من التعبير عنها، ولعل تلك الشعارات التي برزت في ثورات الربيع العربي "الشعب يريد .." لم تكن اعتباطية، ولم تكن مجرّد تعبيرات انفعالية؛ ولكنها في واقع الأمر مثَّلت رد الاعتبار للشعوب، إرادةً وتمكيناً، للتعبير عن مطالبها الحقيقية، ورفضها تلك الوصاية الاستبدادية بكل أشكالها. إلا أن هذا الشعار الذي يتعلق بإرادة الشعوب "الشعب يريد.." كان من المهم أن يتحوّل إلى خطة استراتيجية في مواجهة ما يمكن تسميتها الجماعة المسيطرة ونظام الطاغية. ومن ثم، فإن استكمالا لكلمات هذا الشعار ضمن خطة استراتيجية حقيقية "الشعب يريد إسقاط النظام"، أي أن الشعب لم يكن بإرادته كان لا يريد إسقاط الطاغية فحسب، ولكن كل ما يتعلق به ومنظومته ونظامه، ومن يستفيد من تلك الحالة الاستبدادية، ولعل ذلك يعطينا الدرس الأكبر في عمليات التغيير واستراتيجياته الكبرى التي لا تتمثل، ليس فقط في المطالبات، ولكن أيضا في تكوين الدروع الواقية لعملية التغيير، فتحصّن إرادة الشعوب باستراتيجيات كبرى، غاية في الأهمية، تشتمل على عمليات بناء الوعي، وبناء الإرادة والقيام بعملية التغيير ومتطلباتها الأساسية، وما يعني ذلك من ضرورة التمكين للكوادر التي تقوم على عملية التغيير والتسيير، وكذلك الحفاظ على الخمائر الكبرى التي تتعلق بحقائق التغيير، وتمكين البصائر في التعرّف إلى الواقع القائم ومفاصله وأدوات التغيير وطرائقه، إنها الحصانة المركّبة المؤكدة لإرادة الوعي والسعي.
هذه المفاتيح المتكاملة رشدا ووعيا وعملا وسعيا في إدراك عوامل القابلية للاستبداد والتعرّف إليها لكشفها وتفكيكيها، وتلافي كل ما يتعلق بعوامل وأسباب تؤدّي إلى فقدان المناعة وتآكلها، والعمل الإيجابي الفعال على اكتساب الحصانة وتمكينها، عمليات تأسيسية وأساسية بعضها من بعض؛ وجب علينا التبصر بها والعمل لها.