الفلسطيني وتغيير قواعد الاشتباك
كما فشلت القبّة الحديدية الإسرائيلية في صدّ مئات الصواريخ الفلسطينية، فشلت قبّة الهاسابرا الصهيونية في صدّ الأصوات التي تفوقت في نقل الرواية الفلسطينية إلى العالم. علت أصوات الشقيقين منى ومحمد الكرد، وبدور حسن من القدس، ونادين عبد اللطيف من غزّة، ومريم البرغوثي من رام الله، ونورا عريقات وسميّة عواد وأماني الخطاطبة في الولايات المتحدة، وتامر نفار من اللد، وغيرهم من الشباب الفلسطيني، فوق أصوات ماكينات الدعاية الصهيونية. استطاع جيل فلسطين الجديد حمل المعاناة الفلسطينية من القدس وغزّة واللد وجنين إلى العالم بلغة إنكليزية بليغة، ومنطقٍ لا تنقصه شجاعة الحجّة وقوة المنطق.
في حوار بسيط عفوي مع مستوطن إسرائيلي، فضحت منى الكرد بشاعة شارلوك قادم من خلف البحار يريد الاستيلاء على منزل عائلتها، ويجاهر بالقول "إذا لم أسرقه أنا سيسرقه شخص آخر". وعلى جبهةٍ إعلاميةٍ أخرى، تُصر بدور حسن على تصحيح المفاهيم، وتؤكّد لمحاورتها الأميركية أن حيفا مدينة فلسطينية، بينما تجتهد مريم البرغوثي لتغيير المفاهيم المغلوطة عن الفلسطينيين في الداخل، وترفض وصفهم "عرب إسرائيل"، قائلة لمخاطبها الأميركي: "إنهم فلسطينيون، وهناك محاولات لسلب هويتهم الفلسطينية منهم، فعلى الأقل يمكننا احترام هذه الهوية، وأن نسميهم فلسطينيين وليس عرب إسرائيل".
شباب فلسطيني، منهم الإعلامي والناشط و"اليوتيوبر" والكوميدي، استنفروا على جبهات الإعلام الرقمي ومنصّات التواصل الاجتماعي، لتقديم الرواية الفلسطينية بعد غيابها عقودا هيمنت فيها آلة الدعاية الإسرائيلية على القلوب والعقول عبر العالم. حضر الصوت الفلسطيني في كلمات عارضة الأزياء الأميركية العالمية، ذات الأصول الفلسطينية، بيلا حديد، وشقيقتها جيجي، التي شاركت نحو 63 مليون من متابعيها على منصّة "إنستغرام" مجموعة من الصور، إحداها صورة لابنة عمّها المحامية لينا حديد، وتُظهر لحظة مغادرة الفلسطينيين بلدهم، حيث كتبت فيها معلقة: "أكثر من مليون فلسطيني يغادرون أراضيهم لمناسبة ذكرى النكبة لعامها الـ71". ونشرت بيلا لنحو 27 مليون من متابعيها صورها في مظاهرةٍ، وهي تزين رأسها بالكوفية الفلسطينية، بينما ترفع بيدها عالياً العلم الفلسطيني، وأرفقت المنشور بتعليق قصير، كتبت فيه: "هذا ما يشعر به قلبي .. أن أكون وسط هذا العدد الكبير من الفلسطينيين الجميلين، الأذكياء، المحترمين، المحبّين، اللطفاء، والكرام في مكان واحد، إنه شعور كامل .. نحن سلالة نادرة.. الحرية لفلسطين".
تفوّق جيل "الديجيتال" في معركة حشد الرأي العام ودحض المزاعم الإسرائيلية وإعلاء صوت الحق الفلسطيني. نجح جيل "التيك توك" و"إنستغرام" في إطلاق رشقاتٍ بعيدة المدى، تعرّي وجه المحتل البشع، وتؤجّج غضب العالم ضد الاحتلال وسياسات الفصل العنصري والتطهير العرقي الاستيطاني. ساعد زخم الأصوات الفلسطينية وانتشار الميمات ومقاطع الفيديو التي انطلقت، في البداية، من حسابات فلسطينية وعربية، دعمت انتشارها على الصفحات الغربية، خصوصا صفحات وسائل الإعلام العالمية عبر التعليقات، في ارتفاع أعداد الأصوات الغربية المتبنية للخطاب الفلسطيني، خصوصا مع نشاط المستخدمين العرب للشبكات الاجتماعية في جمع وثائق تُثبت التاريخ الحقيقي لفلسطين، وتكشف ممارسات الاحتلال فيها منذ ما قبل النكبة.
نجح شباب "الديجتال" المنفتح على العالم، المتسلح بمهاراته التقنية واللغوية ومنطقه الإنساني، في ربط النضال الفلسطيني بالحركات الشعبية لحقوق الأقليات، مثل "حياة السود مهمة" (BLM)، ونجح في استقطاب نجوم العالم الذين رفعوا أصواتهم ليرووا للملايين من متابعيهم قصّة فلسطين المغتصبة، منذ نكبة العام 1948، وصولاً إلى مجزرة التطهير العرقي في الشيخ جرّاح وسلوان وبطن الهوى.
كما تغيرت قواعد الاشتباك في الميدان، تغيرت قواعد اللعبة في المجال العام. لم يعد الإسرائيلي قادرا على احتكار الرواية، ولم يعد العالم أعمى البصر والبصيرة، ففي عصر الإعلام الاجتماعي وقوة المواطن الصحافي صار للفلسطيني صوت عال، على الرغم من كل الانحياز الذي مارسته شركتا "فيسبوك" و"تويتر"، عندما شطبتا مئات الحسابات المناصرة للفلسطينيين. وفي المقابل، مرّرتا فيديوهاتٍ ومنشوراتٍ تحرّض لقتل الفلسطينيين وسلب أراضيهم.