الفلسطيني بين حجرين

02 يوليو 2021
+ الخط -

في قصيدته، "ليتني حجر"، يتمنى محمود درويش لو كان حجراً، ويقول: "لا أَحنُّ إلي أيِّ شيءٍ فلا أَمس يمضي/ ولا الغَدُ يأتي ولا حاضري يتقدَّمُ أَو يتراجَعُ/ لا شيء يحدث لي! ليتني حَجَرٌ". تذكرت هذه الأمنية عند مشاهدتي صورةً لو رآها درويش لربما تمنّى أن يكون أي شيء، إلا الحجر.

مؤلمة ومخيفة تلك الصورة التي يظهر فيها فلسطيني قابضاً على حجرٍ فلسطيني، ويهوي به على رأس فلسطيني آخر. وإذا كانت الصورة، أي صورة، تتحدّث عن ألف كلمة، فتلك الصورة بالذات تنطق بآلاف الكلمات، وهي تصور حالة الانهيار التي آل إليها الفلسطيني. كيف وصل الحال بنا إلى لحظةٍ يشهر فيها الفلسطيني حجرَه في وجه أخيه الفلسطيني، وكيف لفلسطيني أن يرفع عصاه في وجه شقيقته. ما الذي تغير؟ هل تغير الفلسطيني أم تغيّر الحجر؟ بالأمس، في زمن "انتفاضة الحجارة"، كانت الحجارة تنهمر مثل المطر من كفّ الفلسطيني (بتعبير الشاعر خالد أبو العمرين في قصيدة "في القدس نطق الحجر"). واليوم، تحجّر قلب قابيل الفلسطيني فهوى بحجره على رأس أخيه. وقع الفلسطيني بين حجريْن، يهوى أحدهما ويهوي عليه الآخر.

في انتفاضة الحجارة، كان الفلسطيني يقبض على حجره بين حجرات قلبه، ويهوي به على رأس المعتدي. كانت حجارة سجّيل الفلسطينية تتطاير من أكفّ الأطفال الناعمة وكأنها براكين تتفجر فوق رؤوس الجنود الإسرائيليين وآلياتهم. وفي الانتفاضة الثانية، أشهر الطفل فارس عودة حجره الصغير في وجه دبابة الميركافا العملاقة، حتى ارتقى شهيداً وشاهداً على زمن فلسطيني جميل، انتصر فيه الحجر على الردى والقدر، بتعبير الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد في قصيدة "حجرٌ حجرٌ بيدي حجر".

مياه كثيرة جرت في النهر منذ انتفاضة الحجارة، غيّرت الفلسطيني، وحرفت بوصلة حجره. تيار عكسي عكر صفو النضال الفلسطيني، وحرف مساره نحو التعايش المُهين مع الاحتلال. كانت نهاية انتفاضة الحجارة بداية زمن فلسطيني رخوٍ لا مكان فيه للمقاومة، وكل المساحة فيه مفتوحة للتنسيق مع الاحتلال. سنوات عجاف قاسية صنّعت طابوراً فلسطينياً من طينةٍ أخرى لا تشبه طين فلسطين وحجارتها. رجال أمنٍ تدرّبوا على أيادي الجنرال الأميركي كيث دايتون، وتشرّبوا عقيدة لا مكان فيها لمعاداة إسرائيل، ولا مطرح فيها للحوار أو قبول الرأي الآخر.

موجعةٌ صورة الفلسطيني الهاوي بحجره على رأس أخيه، ومؤلمةٌ صورة الفلسطيني المسحول في شوارع رام الله بسواعد فلسطينية، والأكثر قهراً موت الفلسطيني بيد أخيه الفلسطيني. قد يتساهل المرء مع كل ممارسات السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية على مدار الـ26 سنة الماضية، مع كل ما فيها من خرقٍ للمواثيق الدولية، وتعدٍّ على أبسط حقوق الإنسان في حرية الرأي والتعبير، ولكن من غير الصائب السكوت على جرائم تطاول حقّ الناس في الحياة. استمرار الحال الفلسطيني على هذا المنوال لا يبشّر بالخير، بل ينذر بخرابٍ ساحقٍ ماحقٍ يقضي على الأخضر واليابس، يطحن البشر والحجر.

على الرغم من قتامة الصورة، يبحث بعضهم عن بصيص أمل، فيرى في ما يجري من حراكاتٍ فلسطينيةٍ منذ اغتيال الناشط الفلسطيني نزار بنات إرهاصاتٍ لثورةٍ قد تعيد الفلسطيني وحجارته إلى الاتجاه الصحيح، وقد تصحّح وجهة البوصلة نحو الاحتلال المستفيد الوحيد من تفتّت الحجر الفلسطيني. وإن كانت قيادة الشعب الفلسطيني ونخبه فقدت القدرة على التفكير خارج الصندوق، فلا ريب أن الشعب الذي أبدع انتفاضة الحجارة الفلسطينية، قادر على ابتكار مقاوماتٍ شعبية يكون الحجر سيد الموقف فيها.

على الرغم من بشاعة الصورة وقتامتها، إلا أن الأمل معقودٌ على جيلٍ من الشباب، لم يعاصروا انتفاضة الحجارة، لكنهم عاشوا على أغانيها وسير أبطالها. في رواية "اللاز" يعلمنا الروائي الجزائري الطاهر وطّار أن كل الأشياء تتغيّر أو تزول، كل الأشياء والأسماء تتبدل أو تغيب، حتى مياه الوادي قد تجفّ، وحدها حجارة الوادي تبقى راسخةً في الأرض.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.