الفقه السياسي الأردوغاني
حالة من الوجوم أصابت الإسلاميين وهم يرون صور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مع رئيس الكيان الإسرائيلي، إسحق هرتسوغ، في أنقرة، بل تأكيد الرئيس التركي على نياته بتوطيد العلاقات بين الدولتين اقتصادياً وسياسياً، وحتى عسكرياً.
تفاوتت ردود فعل الإسلاميين بين الشجب والاستنكار للزيارة، والصدمة، والتبرير، لكن ما هو أهم من الموقف، الدرس الذهبي من السلوك السياسي للرئيس أردوغان، فاستقبال الرئيس الإسرائيلي ليس الاستدارة الأولى التي قام بها. قبل ذلك، كان يعيد صياغة العلاقات مع كل من الإمارات والسعودية ومصر، وطُلب من القنوات المصرية المعارضة في إسطنبول تخفيف حدّة النقد، وتوقفت برامج مشهورة لإعلاميين مصريين معروفين، وصاغ تفاهمات مع الروس، وهو اليوم يساوم حلف الناتو والغرب في الموقف من الحرب الأوكرانية، كما أنّه قبل ذلك ساومهم في موضوع اللاجئين السوريين، لتحقيق مصالح تركيا الاقتصادية والاستراتيجية.
"أردوغان المتخيّل" عند الإسلاميين وخصومهم ذلك الرجل الذي يريد إحياء الخلافة الإسلامية، والذي سيواجه إسرائيل، أو حتى "الإسلامي المتخفي" الذي وصل إلى قمة القوة في تركيا، ويعدّ لاعباً رئيساً في المنطقة، ليس هو أردوغان الحقيقي الذي يتعامل مع الواقع السياسي، ويقدّم مصلحة تركيا ومصلحته رئيساً فوق الاعتبارات الأخرى.
هو السياسي الذي قبل بإعادة هيكلة هويته الأيديولوجية، وقفز من مربع الإسلام السياسي إلى مربع العلمانية والديمقراطية بوصفهما صيغة نهائية للدولة، ولم يسع إلى تغيير الدستور وأسلمة الدولة خلال عشرين عاماً من الإمساك بتلابيب القوة والسلطة. هو السياسي الذي ضحّى برفاقه المقرّبين، عبد الله غول وأحمد داود أوغلو وغيرهما، في حماية قوته ونفوذه وانفراده بالقوة، وغيّر دستور بلاده للبقاء في السلطة.
رأى الإسلاميون في أردوغان صورة القائد التاريخي الذي وقف ضد شمعون بيريس في مؤتمر دافوس، والذي دعم الحركات الإسلامية والتغيير في الربيع العربي، الذي يقرأ القرآن تجويداً، الذي طوّر دولته في المجالات الاقتصادية بصورة ملموسة خلال العقدين الأخيرين، والذي نجح في مواجهة الانقلاب العسكري وأنهى حقبة الجنرالات هناك.
أيّ أردوغان هو الحقيقي؟ الجواب: جميع ما ذكر، لأنّ الفقه الأردوغاني ينظر إلى السياسة من منظور المصالح وموازين القوى والبراغماتية السياسية، وهو ليس خارج سياقات التاريخ والخبرة البشرية والإسلامية، حتى في السعي إلى السلطة والمحافظة عليها، كما فعل الخلفاء الأمويون والعباسيون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون.
هل اختلف أردوغان عن سعد الدين العثماني، مثلاً، المفكر والفقيه الإسلامي، الذي كتب ونظّر ضد الاستبدادين، السياسي والديني، وأصبح لاحقاً رئيس الوزراء في المغرب، وقبل بالتطبيع مع الإسرائيليين وبالالتزام بالمصالح القومية لبلاده ومصالحه الشخصية رئيس وزراء يريد أن يبقى في السلطة. والحال كذلك مع راشد الغنوشي والإسلاميين التونسيين الذين التزموا ببرامج صندوق النقد الدولي الذي طالما كان موضع نقد لدى الإسلاميين وهم في موقع المعارضة.
في المقابل، هل يعني ما سبق، بالضرورة، أنّ هؤلاء القادة والقوى الإسلامية قد تخلّوا عن مبادئهم وقيمهم؟ لا يوجد تعميمٌ هنا، لكن ثمة فرق بين العالمين، الأيديولوجي والواقعي، بين ما نريد وما يمكن أن نقوم به، بين "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" و"صلح الحديبية" و"اتقوا الله ما استطعتم" من جهة والأيديولوجيا التي صاغت المثالية السياسية الإسلامية أو المخيال الشعبي المبني على تصوّر لتاريخ متخيّل أو مؤدلج غير واقعي، لكن الخيوط الأيديولوجية نسجت منه ثوباً جميلاً يتغنّى به الجميع.
لست في صدد التبرير أو التوافق والاختلاف مع هذه القوى أو تلك، لكنّ الجملة المختصرة أنّ رؤيتنا إلى العالم، وإلى السياسة تحديداً، هي المشكلة، وذلك المخيال السياسي لدى الإسلاميين، على حد تعبير هبة رؤوف عزت هو الذي جعلنا نرى الأمور من منظور غير واقعي في أحيانٍ كثيرة، فالتاريخ البشري، وليس فقط تاريخ العرب والمسلمين، هو سياقات من المسارات والأحداث والوقائع المغايرة لمسلّمات وأفكار مثالية كثيرة زُرعت في عقول الناس، ووضعت "بردايم" أبعدنا عن القوانين الحقيقية التي تحكم العالم بصورة حقيقية!