الفرح إذا انفجر
"إذا جاءك الفرح مرّة أخرى، فلا تَذكر خيانته السّابقة... أدخل الفرح وانفجر". لعلّ جملة محمود درويش هذه هي أجملُ تعليقٍ على فرحة الجمهور في المنطقة العربية بانتصارات المونديال. الفرح الذي بدا غير عقلاني لبعضهم. فما العظيمُ في فوز فريقٍ على فريق آخر؟ هي لعبة، لا حرب أو جائزة تُغيّر المصائر، ولا يانصيب يُصيب أهل البلاد منه نصيب. لن تتغيّر حياة الشّخص الذي انفجر من الفرح، صارخاً، راقصاً، راكضاً في الشّوارع، وهو لم يفعل ذلك في أي يوم آخر في حياته. هو الذي درس وعمل وتزوّج وأنجب وسافر وعاش.. لكنّه في كل أسباب الفرح تلك لم يفرح بهذا الشّكل الهستيري.
ما السرّ، يا تُرى؟ هو سؤالٌ يُطرح على كل الشّعوب، وليس المغاربة أو التوانسة فقط؛ فالسّعوديون فرحوا بانتصارهم، حتى إنهم أفردوا للانتصار عطلة. نتخيّل أي تفسير سببي سيقول إن تونس والمغرب، بدرجة أقل، يحتاجان أسباب الفرح، مع الظروف المعيشية الصعبة، وغلاء الأسعار والاحتقان الاجتماعي.. التي جعلت الفرح قليلاً. لكن لا يمكن تفسير فرح السعوديين بهذا العامل. إذن، لا علاقة للسبب بالمعيش اليومي للفرحان بانتصار منتخبه، الذي فاق الفرحان بنجاحه، مع أنّ حليم غنّى "ما لقيت فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحو".
ستدخل لحظة تسجيل الهدف الثاني للمنتخب المغربي في مباراة بلجيكا، مثلا، بعد خوف كبير من التعادل، ضمن أسعد لحظات العمر لمغاربةٍ كثيرين. لكن ماذا عن الخسائر السّابقة، قاتلة الفرح والسعادة؟ آخر انتصار للمنتخب المغربي في كأس العالم كان في دورة 1998. بمعنى أنه مرّت 24 سنة بلا فرح كهذا. نحن فعلا بلدانٌ قليلة الحظ في الفرح. ولكن هذا التأثير الجنوني لكرة القدم غريب أيضا؛ فالمُنتشي بالانتصار يقترب من المنتشي بالمخدّرات في سلوكه غير الاعتيادي. والمهزوم فيها هزيمة مرّة يقترب من الذي فاتته جرعة المخدّر.
لو كنّا شعوبا فرحة في الأصل، لما كان الفرح لينفجر بهذا الشّكل، إلّا إذا فزنا بكأس العالم. تُرى ما علاقة التوقعات بالفرح؟ ماذا لو فاز المغرب أو تونس أو السعودية بكأس العالم؟ من الواضح، طبعاً، أننا سنحتفل بذلك قرونا. بينما سيحتفل الألمان مثلا في الشوارع والحانات ليلة واحدة، ثم يبقى أثر ذلك في الأحاديث اليومية والإعلام بضعة أيام أخرى.
صرّح مدرّب المنتخب الكندي قبل مقابلته مع المغرب بأن منتخبه سيفوز ليسعد الجمهور الكندي بعد هزيمتين. أحد الأصدقاء الظرفاء على "فيسبوك" كتب ما معناه: كندا من أسعد الشعوب في العالم، ولا تحتاج لمزيد من السعادة. فلماذا لا "تتساهل معنا"، لنفرح نحن الذين نقف بعد المائة في سلم السعادة. نحن الذين سنُفجّر فرحاً أكبر، لو تأهلنا، فلا تحاولوا سلبنا هذه الفرحة يا إخواننا الكنديين بالعنتريات.
في رواية "فيزياء الحزن"، وهي من أجمل ما قرأتُ هذه السنة، للبلغاري غيورغي غسبودينوف، الذي كتبها بعد احتلال بلاده المرتبة الأخيرة في سلم السعادة، ليحفر في أسباب الحزن في بلاده. لا نجد في الرواية تعاسةُ، بل سلسلة من التفاعلات الإنسانية العميقة. وبدلاً من أن نفهم أسباب الحزن، دخلنا في فهم الحياة وتفاعلاتها التي لا يشكّل الفرح عاملا مُهما فيها، بقدر الفهم ومرونة تقبل الموروث من الأحزان والكوارث. معنى أن على بعضنا قبول بعض الأحزان نتيجة طبيعية لمكانه وزمانه. لكننا ندرك حتما أن المقولات السائدة عن التعاسة والقوة والفرح كلها تضربها كرة القدم في العارضة، وتعيش أبد الدّهر، ملوّحة بمشاعرنا يميناً وشمالاً.
لكن مشكلة كرة القدم، بما أنّها لعبة قائمة على استثارة المشاعر، صارت أداة سيطرة أيضاً، مع تحوّلها إلى صناعة وتجارة. ومشكلتها الثانية، كيف نملك لاعبين قادرين على منحنا هذا الفرح الفريد؟ فاللّاعب الكبير لا يكون كذلك بموهبته فقط، بل بمرونته النّفسية. كما قد نجد عند ليونيل ميسّي الذي لا يحتاج لأن يبذل جهداً خارقا للسيطرة على مشاعره، ولعب كرة قوية ومتحكّم فيها، لأنك تشعر بأنها قدرة فطرية لديه. أو بقدرته على التحكّم في نوازعه، كما نجد عند رونالدو الذي يمارس هذا التحكّم بوعي وإدراك كبيرين. أما المتفرّج فله الله، إذا لم يكن له امتياز الانتماء إلى بلدانٍ لا تفتقر إلى الفرح.