الغول الطيب وحيد حامد
"الأفضل"... هكذا يصفه يحيى الفخراني. وعلى الرغم من خطورة استخدام أفعل التفضيل في الفنون، فإن "وحيد" يستحقها، من دون مجازفة. أفلامه تستحقها، مواقفه "الفنية" تستحقها، ويبقى موقفه السياسي "وحيدا" لا يجد له سندا من أيامه التي أحبها، وأفلامه التي أحببناها. قرّر وحيد أن يهادن السلطة كي ينتقدها، أن يصانعها كي تسمح له بصناعة سينما، أن يسلّم لها تصريحاته، كي تخلي سبيل مجازاته. حاول وحيد حامد أن يقول "ما يريد" في أفلامه. حوّل حلقاته الإذاعية قانون سكسونيا إلى فيلم الغول، مع عادل إمام، عام 1983، ليرصد تغوّل الفاسدين من أغنياء الانفتاح الساداتي، على المجتمع، وقدرتهم على إخضاع كل شيء لهم، حتى القانون. رصد انتهاكات القتل والتعذيب، في معتقلات جمال عبد الناصر، في "البريء" (1986)، وهو الفيلم الذي رفضت الرقابة نهايته وحذفتها، لأنها تبشّر بحلّ مسلح! وعاد ليرصد تجاوزات أجهزة ناصر (1994)، في فيلم "كشف المستور"، ويشير إلى محاولة تكرار هذه التجاوزات في عصر حسني مبارك. التزم حامد بمعادلة المعارضة المدجّنة في عصري أنور السادات ومبارك، كل شيء إلا الرئيس، خاض "عوالم الوزراء"، في الراقصة والسياسي (1990). ثم عاد ليكرّرها بعدها بسنوات أنضجت معرفته وتجربته، فكان "معالي الوزير" (2002)، مع الاستثنائي أحمد زكي. رصد وحيد جانبا من أحوال المواطن "المنسي" بين تحالف السلطة مع رأس المال، ومنح البطل الشعبي فرصة كي ينتزع "شرفه" المنتهك، ويضرب بهراوته فيحطم "بيوت من زجاج"، لا يكفّ أصحابها عن قذفه الدائم بالحجارة، منحه انتصارا بسيطا، حققه حين أصر على المواجهة ولم ييأس.
واجه وحيد حامد تيارات التطرّف الديني في مسلسل "العائلة" (1994)، وواجه تعنّتا رقابيا. للمفارقة، كانت مواجهة الإسلاميين جزءا من مشروعه في تفكيك بنية الاستبداد في المجتمعات العربية. استغل خصومة الدولة معهم، ساعدته الدولة أحيانًا، لكنه في الأخير لم يعبر إلا عن آرائه. لاحظ: وحيد حامد من القليلين الذين لم يتزلّفوا للإخوان المسلمين في عام حكمهم، وكتب ضدهم بعنف، وكتب في صحيفة الوطن مقالا "متجاوزا" في حق الرئيس السابق محمد مرسي رحمه الله. لم يكتف بإدانة التطرّف الديني، كما يفعل "تنويرجية" هذه الأيام، بل أشار إلى دور الدولة في تصنيعه وتبريره لدى أصحابه، في "الإرهاب والكباب" (1992)، وكرّر المحاولة في "طيور الظلام" (1995)، الفيلم الذي استشرف بعض ما حدث في "25 يناير" ، وانحاز فيه وحيد للمواطن المحشور بين صراع الدولة والجماعة، ولم يفته أن يمنح هامشا إنسانيا لممثل السلطة مقابل انتهازية الإسلاميين، ليس لتمرير الفيلم فحسب، بل لأن هذه قناعاته.
تأثر وحيد حامد، فيما أزعم، برواية وقائع حارة الزعفراني للراحل جمال الغيطاني، وكتب فيلم "النوم في العسل" (1996)، صارخا في وجه الاستبداد السياسي الذي حوّل المواطنين إلى حيوانات، بلا خصوبة، وانتصر للعلم، وبشّر به حلا، في مشهد رائع جمع بين عادل إمام ولطفي لبيب. كما بشّر بالثورة، في مشهد "الفينال" الذي رأيته بعيني، صورة حية، بعدها بسنواتٍ في ميدان التحرير، حيث يخرج المصريون، بكل طوائفهم، في مظاهرة أمام مجلس الشعب، ويصرخ الجميع "آه"، ولم يفت حامدا أن يجعل قائد المظاهرة "ضابط شريف"!
لم تتوقف محاولات وحيد حامد الجادّة، في تفكيك الاستبداديْن، السياسي والديني، وحليفهما الدائم رأس المال. كرّرها في فيلم مختلف، "سوق المتعة" (2000)، مع الراحل محمود عبد العزيز، و"معالي الوزير" (2002)، و"دم الغزال" (2005)، و"عمارة يعقوبيان" (2006)، و"احكي يا شهرزاد" (2009)، ومسلسل "الجماعة" (2010)، وهو المسلسل الذي تناول قصة تأسيس جماعة الإخوان على يد الشيخ حسن البنا، وتناول جوانب من شخصية الشيخ، وفق رؤية حامد التي رآها الإسلاميون متحاملةً ومضللة، وإنْ لم يختلف أحدٌ من المتخصصين في تاريخ الحركات الإسلامية على صحة "المعلومات" التي اعتمد عليها حامد.
مشروع "الأستاذ" أكبر بكثير من مساحة المقالة، شكرا له، على الرغم من كل شيء، وشكرا لمهرجان القاهرة السينمائي على تكريمه، فهو يستحق.