الغرب عندما يتحوّل إلى متفرّج
كان ينبغي أن تظلّ الكرة في ملعبهم، لا في ملعب الخصم، لأن كرة القدم، بوصفها "لعبة الأمم" الجديدة، لا تدار إلا في غرف المراقبة المركزية الغربية، وعندما أفلتت الكرة من بين أقدامهم لم تقعد لهم قائمة.
وكان يمكن أن تكون محض كرة بريئة، بمضمار محدود المساحة، ولاعبين معدودين على أصابع القدمين، تبدأ بصفارة وتنتهي بأخرى، غير أن الغرب الذي يعيب علينا "تسييس الرياضة" كان أول من سيّسها، وموّلها، و"عنصرها"، وجعل "هدفها" أبعد ما يكون عن شباك المرمى.
وعندما انتقلت الكرة إلى ملعب الدوحة، استعرت الهجمة، وأشهر "حكّامهم" البطاقات الصفراء والحمراء، حتى قبل أن تبدأ المباريات. جن جنونهم وحاولوا تدارك ما فات، فطلبوا استعادة الكرة، لإعادة حشوها بنظرياتهم ومفاهيمهم "الأخلاقية" عن المثليين وحقوقهم، وعن "كرامة" المهاجرين بشرًا وعمالاً، التي تركل مع كراتهم الذاهبة إلى الجحيم، لكن المقدّسة، عندما يتعلق الأمر بوجودهم على أراضي الغير.
كانوا يمنّون النفس بإفشال مونديال قطر بأي ثمن، منذ حصلت الدوحة على حق الاستضافة، فبدأ أنكر الأصوات يثرثر بخفوت أولًا: كيف يسمح بهذا القرار؟.. هل يمكن لدولة من العالم الثالث أن تنجح بتنظيم حدثٍ على هذا القدر من الضخامة؟ وهل يحقّ لدولة خارج منظومة العالم الغربي أصلًا أن تستضيف المونديال الذي يعدّ من أخصّ خصوصياتهم؟.. أسئلة شتى كانت تدور، محمّلة بكل صنوف الازدراء والمكر، وظلّ رهانهم على فشل قطر في التنظيم قائمًا إلى ما قبل أشهر يسيرة، لكن عندما شعروا أن المونديال ذاهب إلى أزيد من النجاح، استبدّ بهم السعار، وبدأوا بتجريد حملة ضروس جنودها ساسة، و"مثليون"، وأبطال إلكترونيون، ومتواطئون أيضًا من العرب أنفسهم الذين يمقتون نجاح بني جلدتهم، ووصلت الحملات إلى حدّ الإسفاف والبذاءة أحيانًا، سيما عندما يتحدثون عن الحقوق والحريات التي لا ينبغي أن تتعدّى حدودهم؛ حتى لا تختلّ معادلة السلب والنهب من موارد العالم الثالث.
أما قطر فيحسب لها أنها ظلّت قابضة على زمام التنظيم بصمت، لم يزدها النباح إلا تصميمًا على المضي في القافلة إلى آخر الشوط، ولم يخل الأمر من جنود يدافعون عنها، كان آخرهم واحدًا منهم، يعرف ألاعيبهم، وازدواجية معاييرهم، وأعني به رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، جياني إنفانتيو، الذي ردّ الصاع صاعين للغرب، عندما عرّى نفاقه.
أدري أن "الهجمة" الغربية لن تنتهي بانتهاء "المباراة" القائمة الآن في الدوحة، فثمة تداعيات أخرى مقبلة، وسيحاول الغرب، الذي يشعر أن من حقه جعل كرة الأرض نفسها كرة قدم قابلة للركل والتمرير والتبديل، أن يستعيد هذه الكرة بكلّ ما أوتي من قوة مال ونفوذ، تمامًا مثل ما يحتكر الثروات والتحكم بـ"لعبة الأمم"، بالطريقة التي تلائمه وتحقق مصالحه، ولن يطلب هذه المرة استراحة بين الشوطين ليفعل ذلك، ولن يكتفي بتبديل "لاعبيه" ممن تمردوا عليه، على غرار جياني إنفانتيو وسواه، بل ربما يذهب أبعد من ذلك بكثير، كي لا يتكرر مثل هذا الاختراق "الأمني" الخطير لمنظومته التي بناها بعرق جبين المهاجرين، وثروات الآخرين.
لكن، في مقابل ذلك، لم يفهم الغرب بعد أن العالم "الآخر" الذي يسعى إلى استعادة كرة الأرض من فلكه، ومن ملعبه وشروطه، قد أصبحت له شروط جديدة، ومضمار مغاير، سيجتذب الجماهير التي حرمت طويلًا من حرياتها بفضل "حريته" هو، وسيرى بأم عينيه أن ثمة "لعبة أمم أخرى" جديدة لا تدار بالإملاءات وفرض النفوذ ونهب الموارد، ومن غرف "الفأر" التي استبدلت بـ"الفار"، بل سيحشو العالم كرته بمفاهيم مغايرة عن انتزاع الجلود من براثن الظلم، وعن حقّه بحصّته من هذه الكرة الجميلة.
سيرى الغرب عندما يتحول إلى "متفرّج"، لا لاعب، من سيحرز الأهداف هذه المرة، ومن ستكون له صافرة الختام.