العَلمانية مجدّداً

26 ديسمبر 2024

(منوشهر يكتاي)

+ الخط -

عندما كان أسلافنا البشر يعبدون الشمس أو الرياح أو أرواح الأجداد، كانوا يفعلون ذلك اتّقاءً لغضبهم أو جلباً لرضاهم، وسبب هذا كلّه عدم معرفتهم بقوانين الطبيعة التي تجلب الأمطار أو تنبت الزرع أو تسبّب الفيضانات والبراكين. كان التقرّب من الآلهة، بممارسة طقوسٍ تبدو لنا الآن مضحكة لو رأيناها، محاولة بشريّة لاسترضاء الطبيعة، وهكذا كان السحر من أوائل الأدوات التي استخدمها البشر للتأثير فيها. مع ازياد التجارب وتعمّقها وتراكم الخبرات، بدأ البشر يكتشفون قوانين الكون، وهكذا راحوا يخوضون غمار العَلمنة باعتبارها نزع السحر عن العالم. فالعَلمانيّة هي بالأصل تحرير العقل البشري من أدوات التفكير الغيبيّة، واتباع منهج جديد يقوم على فهم الأشياء، من خلال فهم منطقها الداخلي وقوانينها المُحرِّكة. بهذا المعنى، كانت العَلمانيّة على الدوام سيرورة بشرية لفهم العالم والتعامل معه بأدوات متطوّرة باستمرار، قبل أن تكون موقفاً من الدين، وقبل أن تدخل لتحديد العلاقة بين مؤسّسات الحكم والمؤسّسات الدينية.
لعلّ الديانة المسيحية، باعتبارها نشأت وانتشرت في ظلّ الإمبراطورية الرومانية الوثنية، خير مثال على العلاقة المتداخلة بين الدين والسلطة. قبل أن تتبنّى الإمبراطورية الديانة المسيحية بشكل رسمي، كان المسيحيون مُجرَّد "جماعة المؤمنين المتّحدين في إيمانهم خارج السلطات الزمنية، والموالين لهذه السلطات رعاياً لا يخرجون عن طاعتها، لكنّهم يرفضون أن تفرض عليهم معتقدات لا يؤمنون بها". لكن عندما تجذّرت المسيحية في بنية المجتمع وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية، تغيّرت الحال، وأصبحت الكنيسة في موقع القوّة لتداخلها مع السلطة الزمنية. قبل الاعتراف، كانت مطالب الكنيسة من السلطة احترام حقّ رعاياها باختيار دينهم وممارسة طقوسهم وعباداتهم، وبعد الاعتراف والتبنّي صارت مطالب الكنيسة من السلطة فرض الدين المسيحي على رعايا الإمبراطورية جميعاً. الدين (أي دين) بطبيعته يصنّف البشر بين فئتَين، مؤمنين وغير مؤمنين، وهذا الفرز لا قيمة له إذا ما كان الدين خارج السلطة، لكنّه يصبح كذلك عندما يتحكّم بها أو يتداخل معها، لأنّ مؤداه أن يميّز بين رعايا الحاكم أو مواطني الدولة على أساس معتقداتهم، فيكون هناك تمييز في الحقوق والواجبات رغم افتراض تساوي المراكز القانونية أساساً، حتى لو كان التساوي بحدّ ذاته غير عادل ولا منصف.

 لم يكن نظام الأسد عَلمانياً، بل استبدادياً سخّر مقدّرات الدولة للبقاء في السلطة، ومزّق المجتمع ليضعف قواه في مواجهته

في الإسلام يختلف الأمر قليلاً من حيث نشأة العلاقة بين السلطة والدين، فقد جمع الرسول محمد (ص) بين السلطتين الزمنية والروحية، وبعده سار الأمر برهة قصيرة على هذا المنوال، إلى أن تحوّلت الدعوة دولة. مع إنشاء أركان الدولة الإسلامية، وتثبيت سلطتها السياسية في مساحات واسعة خارج الجزيرة العربية، أصبح للسلطة المتمثّلة بالخليفة أو أمير المؤمنين قواعد مستقلّة لإدارة البلاد والعباد لم تكن على الدوام متوافقة مع متطلّبات الدين، حتى وإن بدا ذلك ظاهرياً. يذكر ابن كثير (1373) في "البداية والنهاية" أنّ: "الخليفة عبد الملك بن مروان عندما وصله الخبر أنّ الخلافة آلت إليه كان يقرأ القرآن، فوضعه جانباً وقال: "هذا آخر عهدنا بك، هذا فراق بيني وبينك"، وخرج يخطب بالمسلمين، وقال: فإني لست بالخليفة المستضعف، ولا بالخليفة المداهن، ولا بالخليفة المأفون، ألا وإني لا أداوي هذه الأمّة إلّا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه". هذا أحد مظاهر العَلمنة في سيرورة الدولة الإسلامية، فالحاكم يرى الأمور في الدولة لا كما يراها الفقيه، والاستشهاد بمذهب عبد الملك بن مروان له دلالة خاصّة لما عُرف عنه من فقه وعلم ومعرفة من جهة، ولما عرف عنه من حزم في الإدارة، وإنجازات لا سابق لها من جهة ثانية.

العَلمانية المطلوبة في سورية ليست التدخّل في معتقدات الناس، بل منع استغلال الدين في السياسة لفرض شكل نظام الحكم

من بين مواضيع كثيرة طُرحت للنقاش في سورية خلال فترة الثورة، نالت العَلمانية حظّها الوافر من الجدل بين الفرقاء السياسيين والعاملين في الشأن العام، ويشتدّ النقاش حولها كلّما بدا وكأنّ الأمور باتت في محكّ الممارسة العملية، كما هي الآن بعد إسقاط نظام الجماجم والرعب الأسدي. ثمّة فهم ملتبس للعَلمانية، يخلط بينها وبين الحرّيات الفردية، فكثر من السوريين والسوريات يعتقدون أن النظام البائد كان عَلمانياً، لأنه كان يتيح للناس فسحة من الحرّية في اختيار ملبسهم ومشربهم، وبعض جوانب حياتهم الاجتماعية، كممارسة العادات والتقاليد في الأعراس أو الحفلات الخاصّة، لكنّهم لا يدقّقون في سيطرته على المؤسّسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، من خلال التعيينات الوظيفية، والتوجيه لرجال الدين، فيما هو مسموح التطرّق إليه في خطبهم وعظاتهم وفيما هو ممنوع، ولا ينظرون إلى استغلاله المشاعر الدينية لعموم الناس كلّما احتاج لإرسال رسائله لدول الجوار أو المنظومة الدولية. لا ننسى تجييشه الشباب السوري للقتال في العراق ضدّ الاحتلال الأميركي عام 2003، ثمّ مساومة الأميركيين على مكافحة الإرهاب الذي ولّده هو. لا تغيب عن البال سياسة بناء المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن الكريم، حتى في المدن التي لا وجود فيها لأكثرية مسلمة محافظة.
لم يكن النظام البائد في سورية عَلمانياً، بل كان نظاماً استبدادياً سخّر مقدّرات الدولة للبقاء في السلطة، ومزّق المجتمع ليضعف قواه في مواجهته. العَلمانيّة ألّا تتدخّل السلطة الحاكمة في معتقدات الناس الدينية، ولا في أساليب ممارستهم طقوسهم، ولا أن تفرض عليهم ديناً أو معتقداً أو طقساً، وأن تحميهم من أي اعتداء تأتيه جماعات تخالفهم آراءهم أو لا تعتنق دياناتهم أو معتقداتهم أو لا تتفق معهم في طقوسهم وشعائرهم وأساليب ممارستها. العَلمانية ليست كفراً ولا إلحاداً ولا هرطقة، هي بالضبط ترك مسافة بين السلطة والأديان، بين مؤسّسات الحكم ومؤسّسات الأديان، وعدم استغلال أي منها للآخر. العَلمانية بجوهرها ومبدأها الأساس هي حماية للأديان والمتدينين من عسف السلطة ومن استغلالها. وصحيح أنه ثمّة تجارب متطرّفة في التاريخ لعَلمانيات متطرّفة فرضت رؤيتها لفصل الدين عن المجتمع، لا عن السياسة فحسب، مثل فرنسا، وتركيا في عهد مصطفى كمال أتاتورك وحكم العسكر، لكن هناك في المقابل عَلمانيات كثيرة أخرى ضربت أمثلة لا تُنكَر في احترام حقوق جميع المتديّنين وغير المتديّنين، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وغيرها كثير.
مهمّة العَلمانية المطلوبة الآن في سورية ليست التدخّل في معتقدات الناس، ولا هي مواجهة الأديان والمتدينين، بل منع استغلال الدين في السياسة لفرض شكل نظام الحكم أو شكل الدولة، المنشودين في سورية بعد قيامتها الجديدة. العَلمانية ليست أيديولوجيا ولا نظام حكم ولا موقفاً من الأديان، العَلمانية سيرورة تاريخية لفهم الطبيعة والمجتمع بموجب قوانينها الخاصّة، والتعامل معها بناءً على ذلك. من هنا، لم تكن ردّة الفعل على تلك المظاهرة في ساحة الأمويين، التي أثارت كثيراً من الجدل واللغط، واستدعت هجوماً على العَلمانية والديمقراطية، حدثاً عابراً، بل هي جزء من الاستحقاقات الراهنة التي لن يستقيم بناء سورية الجديدة من دون طرحها للنقاش العلني، والوصول فيها إلى تفاهمات مبنيّة على احترام الآراء المختلفة، وهذا جزء من النضال المستمرّ، الذي لن يتوقّف ما دام الناس يسعون للعيش مع بعضهم بعضاً.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود