العودة والدعوة... عن المُحرَّر والثورة والسياسة
"المُحرَّر" صفةٌ تفترض وجودَ نوعٍ من التفكير الحر الذي يتضمنه فعلُ تحرير الإنسان، وأيضًا تفترض وجودَ نوعٍ من السلوك الحُر الذي يلائم هذا النوع من التفكير وينتج منه. والحريةُ مفهومٌ مؤسَسٌ على القانون، ولا توجد الحرية إلا حيث يوجد القانون. وعليه، المُحرَّر صفةٌ ينبغي أن تفترض وجودَ نوعٍ من القانون المعاصر الذي ينتمي في روحه إلى ما بعد 2011، والذي يستند إلى مقاربة معاصرة للإنسان السوري الجديد، وهو بطبيعة الحال ليس قانون "سورية الأسد" ولا ينبغي أن يتشبَّه فيه. تصير الحرية سائبةً من دون هذا التأسيس على القانون، وتصير حريةً تشبه حرية العصورِ الغابرة، وحرية الجهالة، وتصير مثل "الحرية" في شعار البعث. بكلمة أخرى، تتحوّل الحرية إلى شيءٍ يمكن أن نسميه "الحريةَ المقلوبة"، وهي وهم الحرية وتوهمها، وينتجها السوري المقلوب (المؤدلج): هي مقلوب الحرية التي ينتجها السوري العادي باستمرار منذ 2011، والتي تصوَّرها وأرداها وأعطاها قابلية التعيين بموجب مشروع الثورة. المُهم في هذه المقاربة أن الحرية السائبة (المقلوبة) لا تنجز الرحلة الدلالية من مفهوم التابع إلى مفهوم الفرد الحر، وهذه الرحلة هي جوهر فعل التحرر بموجب الثورة السورية، وهي غاية الحركات النهائية كلها بعد 2011. ويَصدُم قِتالُ الفصائل في "المُحرَّر" السوريين في كل مرة، والصدمةُ في كل مرّة تكون بمدى غياب العقل، وبحجم الكارثة الناتجة من هذا الغياب؛ فالغياب يزداد وحجم الكارثة يزداد. الذي في "المُحرَّر" اليوم، ومع الفصائل جميعها، هو حضورٌ في الغياب؛ فالحرب، والظلم، والشر، والتخلف، والتطرّف، والقتل، والسذاجة، واسترخاص الحيوات، واستسهال القتل، والتبعية العمياء، والإمعية، والرعوية، كلها مفهومات تحضر في غياب الفرد الذي يُفكر، وتحديدًا ذلك التفكير التواصلي المُؤسِّس. ومن ثم، مع هذا الغياب، يغيب الوعي، ويغيب الضمير، ويتم قلب المفهومات: الحرية تصير حرية سائبة، والعدالة الاجتماعية المؤسسة على المساواة في الإنسانية تصير عدالةً فصائلية مؤسسة على المساواة في التبعية، وهكذا.
نعودُ إلى ذواتنا فرادى ولا نعود جماعةً، ومن ثم فإن هذه العودة فعلٌ مضادٌ للإمّعية بموجب ماهيتها
الحرية، التي من أجلها نتألم كلَّ يوم، رحلةٌ دلالية من مفهوم الإمّعة إلى مفهوم الفرد، رحلةٌ تجعلُ الوطنَ مُمكنًا، وأداتها الثورة التي صنعها السوري العادي، فهو الذي حرّر، وهو الذي تُهمِّش الفصائل وجوده ودوره. ولذلك، من الطبيعي أن السوري العادي صار ينظر إلى توصيف "المُحرَّر" بوصفه صفةً لم تكتمل بعد لمنطقةٍ لم تستحق اسمها بعد. وهذا دقيقٌ بالنظر إلى أن القتال هناك، في كل مرّة، قتالُ غير المدركين لإنسانيتهم وإنسانية من حولهم، وقتالُ من نام ضميرهم ووجدانهم: إنه بتكثيفٍ واضح قتالُ غير الواعين ذواتهم. يعني ذلك أن الوعي بالذات الفردية، ومن ثم الجماعية، شرطٌ أولي وأساسي ليستحق هذا المُحرَّر اسمَه. ولأن المقاتلين إسلاميون؛ فإن الوعي بالذات المؤمنة أو الذات الإسلامية يصير أيضًا موضوع تفكيرٍ مُؤسِّسٍ بالضرورة. ولكن متى يعي الإنسان ذاته؟ ثم متى يعي المؤمن ذاته المؤمنة؟ بتقديرنا، يعيها عندما يعود إليها مرةً كل حين مع تغير الزمان؛ والزمان يدعو الإنسان إلى العودة إلى ذاته ليَكُونَها باستمرار، ويبدو أن هذه الدعوة هي نفسها دعوة الثورة للسوريين إلى التفكير ما بعد 2011، وإلى العبور بالزمان إلى الجديد الذي تكوَّن بعد هذه الحركة التاريخية، أي إنها الدعوة ذاتها إلى المعاصرة، إلى أن يكون التفكير ملائمًا لهذا الزمان، الدعوة إلى ابتكار الوطن الملائم هذا السوري الحر الجديد.
فعل العودة هذا فعلُ تفرّدٍ بالضرورة، فنحن نعودُ إلى ذواتنا فرادى ولا نعود جماعةً، ومن ثم فإن هذه العودة فعلٌ مضادٌ للإمّعية بموجب ماهيتها، وتتطلب حدًا أدنى من رصيد الكرامة، يصير العائدُ بعد امتلاكه غير قابلٍ لأن يكون تابعًا لأحد؛ فالدعوة إلى العودة إلى الذات تمرّ بالضرورة بمشروع الفرد. يعني ذلك أن العودة إلى الذات تتضمّن أن يصير المقاتلون سوريين عاديين، يفكّرون مثل السوري العادي، مالك مشروع الحرية وصاحب الفضل فيه. هي دعوةٌ إلى إرادة الحياة بصورة طبيعية سوية غير مقلوبة، دعوة إلى الحياة العادية بما فيها من ممارسات يفعلها الإنسان العادي: عبادة، تديّن، حب، زواج، إنجاب، تعلم، بكاء، ضحك، غناء، فرحٌ، حزن، إبداعٌ، إخفاق، وكل شيء طبيعي من دون مبالغة وتطرّف، ومن دون قلب المفهومات.
ما هو مهم الآن: مشروع هيئة تحريرٍ وطنية تُؤمِّم الشأن العمومي المُخصخص، وتكون صورةُ ذاتِ السوري العادي في السياسة
يبدو الخطاب الإسلامي هناك وكأنه مُوجَّهٌ إلى الذات وليس إلى الآخر، يخاطب فيه كل فصيلٍ ذاته أكثر ممَّا يخاطب الآخرين، ليجعلوا هذا القتال يبدو وكأنه مشروعُ فتحٍ عظيم؛ وليسوِّغوا الشرَّ، ويستخدموا هذا التسويغ ضد الجزء الخيِّر الباقي في بقايا ضمائرهم، فيصلون إلى تبرير الشر بفعل الدعوة إلى الإسلام: أي تبرير إخفاقهم في العودة إلى ذواتهم، بوساطة سببٍ متعالٍ هو الإسلام. ولكن يبدو أن الخطاب المقلوب، وتحديدًا الخطاب الإسلامي المقلوب السائد بين فصائل المُحرَّر، على اختلاف تفصيلاته، يشترك في أنه قد جعل من مصطلح الدعوة مقولبًا أيضًا. يعني ذلك أن الدعوة في المُحرَّر اليوم، لا ينبغي أن تكون دعوة السوريين إلى الإسلام بموجب مشروع الفصائل بصورة تقليدية، بل دعوةُ الإسلاميين إلى العبور بالزمان إلى سورية ما بعد 2011، أي دعوة الإسلاميين إلى أن ينتموا إلى الزمان فيصيروا مؤمنين أكثر، وأن يدركوا أن الإسلام ممكنٌ فحسب إذا ما عشناه بعد 2011، وإلا لا يكون دينًا لكل زمان، ومن ثم لا يكون ذاته، بل يكون شيئًا آخر.. الأمر نفسه ينطبق على أنواع القلب كلها، فمشروع الإدارة الذاتية مثلًا مشروعٌ مقلوب، وينطبق عليه كل ما ينطبق على الفصائل الإسلامية.
وحتى لا يبدو الأمر سلبيًا أكثر مما بدا، نطرح سؤالًا آخر: أين الإيجابي في هذا المشهد كله؟ بلغة الشارع البسيطة: "من الصحيح؟" إذا كان الكل يتصارع، ويخطّط للقتل، ولتحقيق المصالح الضيقة، أو للقتال من دون هدفٍ أو مصالح من الأصل؛ فمن الصحيح؟ مرّةً في اجتماع غير معلن، قال أحد المسؤولين في دولة معنية بالمسألة السورية، إن الشباب السوريين "لا يعجبهم أحد، ولا يعجبهم شيء". وربما يكون هذا صحيحًا من زاوية الأجنبي الذي لم يهضم ما حصل في سورية بعد 2011؛ ولكن هذا صحيحٌ أيضًا من وجه الحقيقة التي بدأ يلمحها هذا السياسي: حقيقة أن السوريين لا يعجبهم اليومَ أن يعودوا تابعين لأحدٍ، أيًا كان هذا الأحد؛ ولذلك لن يعجبهم شيء حتى يمتلكوا ذواتهم من جديد، ومن ثم يمتلكوا السياسة في بلدهم من جديد، بوصفهم سوريين عاديين غير مقلوبين، أي حتى يُؤمِّموا سورية فتعود هي أيضًا إلى ذاتها، أي إلى السوري العادي غير المؤدلج وغير المقلوب. إلى حينه، لن يعجب السوري شيء إلا ما هو صورة لذاته، وهذا ما هو مهم الآن: مشروع هيئة تحريرٍ وطنية تُؤمِّم الشأن العمومي المُخصخص، وتكون صورةُ ذاتِ السوري العادي في السياسة.