العمل السياسي الفلسطيني المختلّ

21 مارس 2023
+ الخط -

السياسة أداة لحلّ الصراعات، وانفجار الصراع في أي ساحة سياسية ليس وليد لحظة الانفجار، بل هو نتاج تراكم عوامل وظروف ومعطيات أدّت بالنتيجة إلى الوصول إليه. ولأن المشكلات السياسية ذات طبيعة تراكمية، لا تأخذ تفسيرها من معطيات لحظة وقوعها، بل من السياق التاريخي الذي ولدت فيه وتراكمت خلاله، ومن الممارسات السياسية التي أوصلت الوضع إلى ما وصل إليه، ولا تشذّ الساحة الفلسطينية عن هذه القاعدة التحليلية.
بناء عليه، ما يجرى اليوم في الساحة الفلسطينية، هو نتاج التجربة الفلسطينية الحديثة بحلوها ومرّها. هذه التجربة التي شهدت صراعات داخلية على مستويات مختلفة، وصلت إلى لحظة فارقة في الانقسام الذي قسم القوى السياسية، وقسم الوضع الفلسطيني إلى سلطتين، جغرافياً. ويمكن القول إنّ لحظة الصدام الفلسطيني المسلح والدموي في عام 2007، والانقسام الذي تبعه، أسست لما بعدها، وإن ما تعيشه الساحة الفلسطينية عالقٌ في هذه اللحظة التأسيسية، طالما أنّ وقائع الواقع الذي أحدثه الصدام المسلح ما زالت تحكم الساحة الفلسطينية. ما جرى لا تفسّره التحليلات التي انطلقت من مواقع مصطفة إلى هذا الجانب، تصلح للتفسير الجزئي، لكنّها لا تصل إلى عمق ما جرى ودلالته الخطيرة في السياق الفلسطيني العام.
ما جرى في قطاع غزة 2007 في تلك اللحظة المؤسّسة هو نتاج مجموع المعطيات الداخلية الفلسطينية السابقة، تُضاف إليها المعطيات الإسرائيلية التي أخذت تفعل فعلها في الوضع الفلسطيني المتهالك داخلياً بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات. كما أنه نتاج سياسات أميركية تطلّبت أوضاعها في المنطقة والعالم صرف النظر عن الموضوع الفلسطيني. إضافة إلى وضع عربي متهالك شكّل خلال السنوات السابقة على الصدام المسلح، حاضنة سيئة للوضع الفلسطيني، وتحوّل حينها إلى عبءٍ على الوضع الفلسطيني بضغطه المتواصل عليه.

الاقتتال الدموي في غزة عام 2007 أعلن استنفاد الفلسطينيين أساليب نضالية قادرة على إدامة الصورة الصدامية مع الاحتلال الإسرائيلي

لا نقول هذا من أجل تعقيد النظرة التحليلية لما جرى، فهو في جميع الحالات أعقد من أي تحليل، فالتداخل الحاصل بين هذه المعطيات يجعل ما جرى مؤشّراً في غاية الخطورة في السياق الداخلي الفلسطيني، والذي يعاني من قائمة طويلة من المشكلات، فقد تضافرت كل هذه الأوضاع للوصول إلى الوضع المتفجّر، وبالتالي، انشغال الوضع الفلسطيني بذاته، بدل انشغاله بالاحتلال. وإذا كنّا نريد قراءة ذلك قراءة حقيقية، ومن دون مواربة وتعمية وتسويف، ومن دون اعتبار الاحتلال شمّاعة تصلح لنعلق عليها كل الكوارث والأخطاء التي تصيبنا، والتي هي صناعة يدوية فلسطينية، واعتباره أساس البلاء، حتى في ما تصنع أيدينا. نستطيع القول إن الاقتتال الدموي في غزة عام 2007 أعلن استنفاد الفلسطينيين أساليب نضالية قادرة على إدامة الصورة الصدامية مع الاحتلال الإسرائيلي، بوصفه احتلالاً يمارس وحشيته على شعب مقهور. وهذا لا يعني التشكيك في قدرة الفلسطينيين على التضحية. على العكس من ذلك، المشكلة هي الأداء السياسي للقيادات الفلسطينية التي لم تُدِر لا السياسة الفلسطينية ولا الأدوات الكفاحية إدارة صحيحة تتناسب مع حجم التضحيات التي قدّمها الشعب الفلسطيني. وهو ما يعني دخول الكفاح الفلسطيني في مأزق حادّ. 
ولا أجانب الصواب في القول إنّ هذا المأزق دخلته الساحة الفلسطينية مع الانتفاضة الثانية عام 2000 التي وُلدت مأزومة أصلاً، بسبب الملابسات التي انفجرت الانتفاضة في سياقها، وبسبب من الارتباطات والالتزامات التي وجدت القيادة الفلسطينية، على رأسها الرئيس عرفات، نفسها مرتبطة بها وغير قادرة على الفكاك منها والإعلان عن انتهائها، نعني بذلك اتفاقات أوسلو. وكلما مضى على الانتفاضة الوقت، كان مأزقها يتعمّق بحكم هذه الارتباطات التي شكّلت أساس شرعية السلطة الفلسطينية، والتي منعت القيادة من تبنّي أعمال جناحها العسكري، بل على العكس فرضت عليها وبلسان عرفات إدانة هذه العمليات. وبحكم هذا الوضع المرّكب والمعقد الذي وجدت القيادة الفلسطينية وضعها فيه، رأت أن نوعاً من الفوضى المتحكم بها، والتي تعمل على تمويه المرجعيات النهائية، شيء يخدم القيادة، وهذا ما راكم المشكلات الفلسطينية داخلياً. لا أقول هذا مقللاً من بطولات الفلسطينيين الذين سطروا بدمائهم صفحاتٍ لا يمكن محوها. ليست البطولة المقصودة بهذا الكلام، إنما المقصود الأفق السياسي المسدود الذي ولدت فيه الانتفاضة الثانية، مرَّ الوقت على حساب الفلسطينيين، تراكمت المشكلات وتفاقمت داخل المجتمع الفلسطيني، ووصل الوضع إلى ما وصل إليه من حالة انفجارية شكّلت خطراً على المجتمع ككل، وليس على الانتفاضة فحسب.

من دون معالجة الانقسام الذي أسّس لشلل فلسطيني، سيبقى الوضع يتردّى، خصوصاً في ظل مخاطر إسرائيلية داهمة من الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل

فاقم بناء السلطة الفلسطينية الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وفاقمت الانتفاضة من هذه الأوضاع، والفوضى والانفلات اللذان اعتبرتهما القيادة يخدمان مصالحها في ظل الانتفاضة، حتى لا تمسك متلبسة بممارسات تمنعها الاتفاقات مع إسرائيل، ما حوّل الأوضاع الملتبسة إلى عبء على الفلسطينيين. 
ما جرى في قطاع غزة من اقتتال داخلي هو ما أوصل الساحة الفلسطينية إلى ما هي عليه اليوم، ومن دون معالجة الانقسام الذي أسس لشلل فلسطيني، سيبقى الوضع يتردّى، خصوصاً في ظل مخاطر إسرائيلية داهمة من الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل. صحيحٌ أنّ هناك مؤشّرات فلسطينية على غليان شعبي فلسطيني يؤسّس لانتفاضة كبرى في مواجهة السياسات الإسرائيلية العنصرية والاستيطانية، ومع الاحترام لكلّ التشكيلات الجديدة من "عرين الأسود" إلى كتائب نابلس وجنين وغيرها من تشكيلاتٍ أبدت بطولة استثنائية في مواجهة الاحتلال وقطعان المستوطنين، إلا أن انتفاضة كبرى في مواجهة الاحتلال تحتاج إلى أكثر من ذلك من القوى السياسية الكبرى، وأول ما تحتاجه معالجة الانقسام الذي أسّس لوضع الشلل الفلسطيني، والوصول إلى حدٍّ أدنى من الإجماع السياسي، ليكون حاضنة للنضال الفلسطيني، وراسماً أفقاً سياسياً لهذا النضال، من خلال إرادة سياسية موحّدة للقوى الفلسطينية، تكون حامية لتحرّكات انتفاضية في مواجهة الاحتلال. 
ولا يمكن الاستمرار في سياسة الفهلوة المعتمدة فلسطينياً بالتلاعب بالكلام، بديلاً عن اتخاذ قرارات حقيقية بمغادرة المواقع التي تمترست فيها القوى الفلسطينية، والاستمرار بالحديث عن مصالحة للمرة الألف، وتوقيع اتفاقات متكرّرة من دون أن يتغيّر شيء في الواقع. وإذا لم تتحرّك القوى السياسية لمعالجة الخلل الذي يراه الأعمى، لمعالجة الوضع الفلسطيني الداخلي في ظلّ المخاطر الكبرى التي تتهدّده، فإنّها لن تتحرّك أبداً، وسينتقل الوضع الفلسطيني من حالة الشلل إلى حالة الاستنقاع.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.