العلمانية بين الحقلين المعرفي والسياسي
ثمة تمييز بين الحقلين، المعرفي والسياسي، في التعاطي مع العلمانية على المستوى العربي، على اعتبار أن لكل منهما أهدافه المحددة. ما يرومه الحقل المعرفي تكوين إحاطة ابستيمولوجية حول مفهوم العلمانية ومصطلحها، فيركز ليس على تشكلات المفهوم الاصطلاحية فحسب، بل أيضا على التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية التاريخية التي لا يمكن من دونها تعيين تطور الأفكار. أما ما يرومه الحقل السياسي في الممارسة الإمبريقية، فهو تطبيق العلمانية على أرض الواقع عبر قوانين ناظمة تضبط العلاقة بين الدين والدولة. ويفترض هذا التمييز، بالضرورة، تمييزا آخر في التعاطي مع العلمانية بين رجال الفكر ورجال السياسة، فلا يهم الأخيرين في الحقل السياسي العملي، على سبيل المثال، ما إذا كانت العلمانية بكسر العين أو فتح العين، من العِلمانية أو العَلمانية، ولا يهمهم ما إذا كانت العلمانية نظرية ابستيمولوجية أو لا، ولا يهمهم أيضا جذر المصطلح وكيفية نشوئه في التجربة الأوروبية، ولا تهمهم أشكال العلمانية المتموضعة في العالم الغربي، بشقيه الكاثوليكي والبروتستانتي.
هذه أمورٌ تهم رجال الفكر المختصين في الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم السياسة، فمنهم من يركّز على المصطلح وتطوره اللغوي، ومنهم من يركّز على المنشأ التاريخي، أي على الظروف التاريخية التي أنشأت المفهوم ومن ثم المصطلح، ومنهم من يركز على المكان الجغرافي دون غيره.. إلخ. وعليه، تكمن أهمية تناول العلمانية مسألة فكرية سياسية، في أنها تساهم في رفع منسوب الوعي المجتمعي بضرورتها في تعزيز الديمقراطية والليبرالية لاحقا، وهي المهمة الفكرية الملقاة على عاتق المؤسسات البحثية والتعليمية العالية. من هنا، يجب أن ينتقل النقاش العلماني العربي من عالم الفكر إلى عالم السياسة العملية (دون أن يعني ذلك عدم أهمية الطرح الفكري للعلمانية، فهذا يظلّ ذا أهمية كبيرة على صعيد رفع مستوى الوعي تجاه هذا المصطلح المربك عربيا)، والتركيز على كيفية طرح العلمانية عربيا من دون أن تشكّل تهديدا للدين أو للمنظومة الأخلاقية الإسلامية.
المجتمع العربي يعيش نوعا من العلمنة أو الدنيوية بفعل التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت خلال العقود الماضية
المقصود بهذا الفصل أن طرح العلمانية على مستوى الدولة والمجتمع السياسي، في مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، يجب أن يكون محمولا بالواقع القائم، وخاليا من تكاليف الفكر، على الأقل في الحالة العربية التاريخية الآن، بغية الوصول إلى إجماع بين مختلف الأطياف السياسية والأيديولوجية. من ذلك مثلا، عدم الخوض في الأبعاد الابستمولوجيا للعلمانية، هل هي معادية للدين أم لا؟ وهل تتطلب موقفا عقليا محايدا من الدين؟ وعدم تناول الحالات العلمانية الموجودة في العالم الغربي ونظمها الليبرالية التي تعبر عن مرحلة ما بعد الحداثة، والتركيز على علمانيةٍ تأخذ في الاعتبار خصوصية العالم العربي الإسلامي، فنتائج العلمنة في المجتمعات الغربية ليست بالضرورة نفسها في المجتمعات العربية.
ومن ذلك أيضا استبعاد طرح العلمانية في ذاتها مؤقتا إن صح ذلك، والتركيز على المطلب الديمقراطي، خطوة رئيسية أولى تتبع إنهاء النظام الاستبدادي العربي، على اعتبار أن المجتمع العربي يعيش نوعا من العلمنة أو الدنيوية بفعل التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت خلال العقود الماضية، وأنشأت وعيا مفارقا للدين في السلوكيات اليومية. وعي لم يصل بعد إلى المستوى السياسي المطلوب، لكنه على الأقل ليس وعيا دينيا كاملا في التدبير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي اليومي. أيضا، ليس من الضرورة بمكان تناول مسألة الفصل الدستوري القانوني بين الدين والدولة، في البلدان العربية لحظة كتابة الدستور الانتقالي، فهذه مهمةٌ قد تكون لاحقة، تبعا للتطور السياسي للأنظمة التي تشقّ طريقها باتجاه تثبيت الديمقراطية وترسيخها، وهي عمليةٌ معقدةٌ ومحفوفةٌ بالمخاطر، ومعرّضة للانتكاس بسبب البنى السياسية والاجتماعية في العالم العربي.
مشكلتنا لا تزال تكمن في ذلك العقل الحدي: إما الإسلام حلا لأزماتنا أو تقليد النماذج الغربية، وبين هذا وذاك ثمّة حقائق أكثر نضجا
وليست كتابة الدستور في البلدان التي لديها استعصاء ديمقراطي، كما حال البلدان العربية، تحدث مرّة واحدة، فالدستور يخضع لعميلة تطوير مستمرّة تترافق مع تطور النظام السياسي ذاته، وتطوّر المجتمع المدني في شقه السياسي تحديدا، ومن ثم مع تطور الوعي الاجتماعي. ولذلك، تكمن الأولوية في منع استخدام مؤسسات الدولة الدين، أي منع هيمنة الدولة على الخطاب الديني كما يحدث في العالم العربي منذ استقلال الدول العربية.
ليست العلمانية هدفا مستعجلا في حالة الدول العربية، لكنها يجب أن تبقى هدفا منشودا في الوعي السياسي. إنها ليست إشكالية تاريخية الآن، فما هو إشكال يكمن في كيفية التخلص من الاستبداد، وفي كيفية عبور المراحل الانتقالية من دون أزماتٍ كبرى تعيد إنتاج الاستبداد بأشكال أخرى، وفي بناء مؤسسات الدولة، وفي تأسيس خطابٍ سياسيٍّ موحدٍ يُجمع عليه الفرقاء الفاعلون في المجتمع، وفي إعادة بناء الاقتصاد، والبحث عن السبل الكفيلة بتحقيق التنمية المستدامة.
هذه هي الأولويات الرئيسية الكبرى اليوم في عالمنا العربي، وكل ما من شأنه أن يعيق ذلك، ويفتح معارك جانبية بين الإسلاميين والعلمانيين، يمكن تأجيله، حيث تكون التجربة قد نضجت ورافقها بالضرورة وعي سياسي ومعرفي أكثر عمقا لما يجب أن يكون عليه النظام السياسي الذي يجب أن يعبر عن الخصوصية العربية.
مشكلتنا لا تزال تكمن في ذلك العقل الحدي: إما الإسلام حلا لأزماتنا أو تقليد النماذج الغربية، وبين هذا وذاك ثمّة حقائق أكثر نضجا.