العلاقات المصرية السعودية ... خلافاتها ومستقبلها
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
تعود العلاقات المصرية السعودية إلى حالة من "التوتر المحكوم"، على نحو يعكس تقلّباتها، وخضوعها لتأثير متغيراتٍ تتفاوت بين السياقات الدولية والإقليمية الموضوعية من جهة، وتغيّر إدراكات النخب السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية لتداعيات تلك السياقات على مكانة البلديْن في المنطقة، ومدى فعالية أوراق القوة/ الضغط/ التأثير، التي يحوزها الطرفان.
وفي سياق تحليل "التوتر الراهن" في علاقات القاهرة والرياض، ودلالاته بالنسبة لمسار العلاقات العربية العربية ومستقبل المنطقة إجمالًا، ثمّة ثماني ملاحظات؛ أولاها تذبذب مسار العلاقات المصرية السعودية وتكرار التوترات فيها، على الرغم من التزامها "لغة دبلوماسية" في أغلب الأحيان، خشية انزلاقها نحو "أزماتٍ عميقة"، وحرصًا على إبقائها ضمن "مستوىً معيّن" من تفاهمات "الحدّ الأدنى"، وعدم التمادي في تصعيد الخلاف، لمنع الأطراف العربية والإقليمية الأخرى من توظيف هذا الخلاف، بما يناقض المصالح السعودية والمصرية.
ضعف المؤسّسية و"شخصنة" العلاقات
تتعلق الملاحظة الثانية بدور عامل "الانسجام الشخصي" بين قيادات البلدين، في احتواء الخلافات بينهما، خصوصًا بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وتولّي الرئيس أنور السادات الذي أصلح العلاقة مع الملك فيصل بن عبد العزيز، ليبلغ التنسيق بين البلدين ذروته في سياق حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، ثم فرض الحظر النفطي العربي على أميركا والدول المساندة لإسرائيل.
لا يمكن إغفال "الاستقرار النسبي" في العلاقات بين الرياض والقاهرة إبّان حكم مبارك، سيما بعد إقدام العراق على غزو الكويت
وباستثناء "تحفّظ" الرياض على نتائج اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، (وليس على عملية التسوية نفسها، التي ترعاها واشنطن الحليف الدولي الأقرب للسعودية)، لم يكن قطع العلاقات الدبلوماسية السعودية المصرية ذا مضمون حقيقي؛ إذ لم تستغنِ المملكة عن العمالة المصرية الكبيرة، ولا جرى استبدالها، إضافةً إلى بروز الدور السعودي في "تعريب" خيار التسوية مع دولة الاحتلال، عبر إطلاق "مبادرة الأمير فهد" (ولي العهد السعودي آنذاك) عام 1981 إبّان قمة فاس الأولى؛ إذ أثارت "أفكار السلام السعودية" خلافاتٍ عربيةً واسعة، ثم جرى اعتمادها في القمة العربية التالية التي انعقدت في فاس أيضًا عام 1982، بعد اتضاح تداعيات الغزو الإسرائيلي للبنان، وعجز العرب عن "فرملة" آلة الحرب الإسرائيلية، بعد خروج مصر الرسمية من معادلات الصراع العربي الإسرائيلي، عبر "التسوية المنفردة".
ثم جاءت بعد عقدين مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد السعودي آنذاك) التي اعتمدتها القمة العربية في بيروت (27 - 28/ 3/ 2002)، قبيل الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية، فأصبحت بذلك "المبادرة العربية للسلام".
واستطرادًا في تحليل أثر "شخصنة" العلاقات المصرية السعودية، لا يمكن إغفال "الاستقرار النسبي" في العلاقات إبّان حكم الرئيس حسني مبارك، سيما بعد إقدام العراق على غزو الكويت (2/ 8/ 1990)، ومشاركة مصر في قوات التحالف الدولي ضد العراق، آنذاك، التي كرّست تقاربًا مصريًّا/ سوريًّا/ مغربيًّا مع الرياض، استمرّ بدرجات متفاوتة حتى اندلاع موجة الثورات العربية عام 2011.
صعود السعودية وتراجع الدور المصري
تتعلق الملاحظة الثالثة بتغيّر نمط العلاقات السعودية المصرية بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، التي أزاحت القاهرة عن موقعها "المهيمن" في العالم العربي، لتتحول إلى طرف يتلقى المساعدات السعودية، في مقابل صعود مكانة السعودية (وبدرجة أقل الكويت والإمارات)، إلى مستوى الوسيط الأبرز في العلاقات العربية العربية، ما دفع البعض لوصفها بـ "الحقبة السعودية".
حالات "التحسّن المؤقت" في العلاقات السعودية المصرية، التي تتزامن عادةً مع زيارات سعودية رفيعة المستوى إلى مصر، تبقى "قابلة للانتكاس"
بيد أن تكريس وضعية مصر قوةً عربية ثانية، بعد السعودية، لم يكتمل إلا بعد إفشال ثورة 25 يناير المصرية؛ إذ أصبح النظام المصري يعتمد بصورة أكبر على المساعدات المالية الخليجية، التي أعطت الرياض وأبو ظبي (والكويت بدرجة أقل) مزيدًا من النفوذ المباشر وأوراق الضغط القوية على الشعب المصري ومصالحه ومعايشه، عبر أدوات الدعم الاقتصادي وبناء المشاريع والاستثمارات الضخمة وتمويل القنوات الإعلامية واستقطاب النخب والمؤيدين والناشطين، فضلًا عن تقارب نخبٍ خليجيةٍ مع الدولة والأجهزة المصرية، سيما الجيش والأزهر.
تتعلق الملاحظة الرابعة بأن حالات "التحسّن المؤقت" في العلاقات السعودية المصرية، التي تتزامن عادةً مع زيارات سعودية رفيعة المستوى إلى مصر، تبقى "قابلة للانتكاس"، بسبب "شخصنة العلاقات" وغياب "المأسسة".
ولعل أوضح الأمثلة على ذلك "فتور" العلاقات بين الطرفيْن، بعد استنكار المندوب السعودي في مجلس الأمن للتصويت المصري على القرارين الروسي والفرنسي الخاصين بمدينة حلب والأزمة السورية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، الذي دشّن هجماتٍ سياسيةً وإعلاميةً متبادلة بين القاهرة والرياض، على الرغم من إنشاء مجلس التنسيق المشترك في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ثم زيارة الملك سلمان مصر في أبريل/ نيسان 2016، والتوقيع على 17 اتفاقية ومذكرة تعاون. وكان واضحًا حتى ما قبل انعقاد القمة العربية في عمّان مارس/ آذار 2017 أن كلا الطرفين يمارس ضغطًا على الآخر (تلكؤ مصر في تنفيذ اتفاقية تعيين الحدود البحرية مع السعودية (قضية جزيرتي تيران وصنافير)، وتراجع المملكة عن تزويد مصر بحاجاتها من المشتقات البترولية من شركة أرامكو).
تبدو السياسة الخارجية المصرية كأنّها سياسة إدارة أزمات، أو سياسة بـ "القطعة"
وعلى الرغم من ميل الرياض إلى "تهدئة" العلاقات وتلطيف الأجواء إبّان جولة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا في ربيع 2018، التي بدأها من القاهرة في 4 مارس/ آذار 2018، وسعيه إلى ربط مصر بمشاريع اقتصادية تجعلها مرتهنة للجانب السعودي، فإن تآكل أوراق نفوذ مصر إقليميًّا، ورهاناتها الخاسرة على محور الثورات المضادّة وانحيازها المتكرّر للإمارات، ربما ولّد شعورًا متزايدًا لدى النخب السعودية بأنها لم تعد بحاجةٍ ماسّة إلى العبور من "البوابة المصرية"، (كما كان الحال سابقًا، إبّان مرحلة الرئيس حسني مبارك)، ما قد يعني، في المحصلة، أن مكانة السعودية على الصعد العربية والإقليمية والدولية لم تعد تعتمد كثيرًا على استقرار مصر أو تمتين التحالف معها.
سياق دولي ضاغط وارتباك مصري
تتعلق الملاحظة الخامسة بتأثير السياق الدولي، خصوصًا بعد الأزمة الأوكرانية 2022/ 2023، على علاقات الرياض بالقاهرة؛ إذ تستشعر السعودية زيادة الطلب على دورها ونفطها وقدراتها المالية والاستثمارية والإغاثية، ما يعني "تفوّقها النسبي" وقدرتها على المبادرة؛ إذ استضافت السعودية القمة العربية الأميركية (16/ 7/ 2022)، وكذا القمة العربية الصينية (9/ 12/ 2022).
تتعلق الملاحظة السادسة بطبيعة السلوك المصري في علاقاته الخليجية وتجاه إيران إجمالًا؛ فعلى الرغم من قدرات مصر العسكرية الوازنة عربيا وإقليميا، يصعُب القول إن هناك سياسة مصرية ثابتة تجاه الخليج، ناهيك عن الزعم بوجود "استراتيجية" مصرية تجاه أمن الخليج أو "الأمن العربي"، في ظل ارتباك سياسات القاهرة في الدائرتين العربية والأفريقية منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد؛ إذ تبدو السياسة الخارجية المصرية كأنّها سياسة إدارة أزمات، أو سياسة بـ "القطعة"، ما يعني صعوبة توظيفها الفرص المتاحة أمامها في تينك الدائرتين، ما دام النظام المصري يعطي أولوية لعلاقاته الأميركية/ الإسرائيلية والأوروبية، فيما خلا خطوات "موسمية/ جزئية" تجاه روسيا والصين والهند، تأتي في إطار السلوك التكتيكي والمناورات الدبلوماسية، لكنها لا تعكس "توجهًا استراتيجيًّا مصريًّا" نحو تنويع العلاقات الخارجية مع القوى الدولية والإقليمية الصاعدة، بالإضافة إلى أن مصر لا تطرح عمليًّا أية أفكار لتطوير العلاقات الخليجية المصرية، وإنما تريد جذب الاستثمارات الاقتصادية إليها فقط، ما يعكس نظرة اقتصادية/ براغماتية بحتة.
يبدو أن ثمة "تنافسا ضمنيّا" بين مصر والسعودية على التقارب مع العراق، بغية تحسين الأوراق التساومية للقاهرة والرياض
وصحيحٌ أن مصر تهتم بأمن البحر الأحمر وتخشى احتمال تطور توظيف طهران حركة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن لتهديد حركة الملاحة في باب المندب، فضلًا عن إمكانية إمدادهم الجماعات المسلّحة في سيناء بطائرات مسيّرة، بيد أن القاهرة لا تُشاطر الرياض عداءها مع إيران، ناهيك عن رفضها الانخراط المباشر في أية تحالفات عسكرية أميركية/ إسرائيلية ضد إيران، إضافة إلى تحفّظ القيادات العسكرية المصرية عن الاندراج في أية أطر إقليمية تحت قيادة السعودية، سواء في اليمن أم "التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب" الذي جرى إعلانه أواخر عام 2015.
واستطرادًا، يبدو أن ثمة "تنافسا ضمنيّا" بين مصر والسعودية على التقارب مع العراق، بغية تحسين الأوراق التساومية للقاهرة والرياض، مع وجود فرص أكبر أمام السعودية في هذا الصدد، بسبب قدراتها المالية من جهة، وسعيها إلى جذب العراق بعيدًا عن إيران، المنافس الإقليمي الأبرز للسعودية في الخليج والعالم الإسلامي عمومًا.
وبعيدًا عن نظرية المؤامرة (القول بسعي طرف ثالث لتخريب علاقات القاهرة بالرياض)، أو المبالغة في تأثيرات تصريح وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، التي ربط فيها بين تقديم الرياض مساعداتها بحدوث إصلاحات في الدول المتلقية، أو تفسير الغضب السعودي/ الخليجي من المقالة التي كتبها رئيس تحرير صحيفة الجمهورية، عبد الرازق توفيق، فإن التوتر الراهن في العلاقات السعودية المصرية، يمثل قمّة جبل الجليد الذي يخفي صراعاً أكبر يكشف حدود/ آفاق العلاقة، التي تعبّر عن "توافقاتٍ مصلحية آنية"، وليس توجّهات استراتيجية ثابتة؛ إذ لا تسمح اختلافات الدولتين بالقول إنها علاقة "مستقرّة"، ناهيك عن وصفها بـ "الشراكة الاستراتيجية"؛ كما أن فشل الطرفين في إدارة علاقاتهما يرسم ملامح قصة "فشل عربي أكبر" تعكس حالة النظم العربية المترهّلة، وتضاؤل هامش المناورة في سياساتها الخارجية، خصوصًا مصر.
وعلى الرغم من دخول الإمارات طرفًا ثالثًا رديفًا، في العلاقات المصرية السعودية، سيما في ظل سياسات الثورة المضادّة منذ منتصف 2013، فإن ذلك لا يسوغ توصيفه بمحور "الاستقرار العربي"، لأنه أقرب إلى العلاقات الآنية، ولم يرقَ أبدًا إلى بلورة رؤية استراتيجية مشتركة لمجمل قضايا المنطقة العربية، خصوصًا قضية فلسطين.
فقدَ الإطار العربي بوصلته والحد الأدنى من تماسكه، في ظل مقاربات التطبيع/ التسوية مع إسرائيل
تتعلق الملاحظة السابعة بأن استعادة مصر زمام المبادرة في علاقاتها مع السعودية، وعلاقاتها الخارجية عمومًا، ليس أمرًا مستحيلًا، بيد أنه يقتضي تحولًا داخليًّا جذريًّا يعالج نمط علاقة التبعية المصرية لمصادر التمويل الخارجي (أميركا/ أوروبا/ الخليج/ المؤسسات الدولية)، وإيجاد/ بلورة فلسفة تنموية حقيقية، بعيدًا عن سياسات "النيوليبرالية" والخصخصة وتوصيات صندوق النقد الدولي، مع أهمية رفع يد المؤسسة العسكرية عن تسيير شؤون الاقتصاد والسياسة والمجتمع في مصر، ما يعني محدودية مردود زيارات الرئيس عبد الفتاح السيسي الخليجية (قطر، الإمارات).
تتعلق الملاحظة الأخيرة بالجانب غير الرسمي في العلاقات المصرية السعودية، الذي يستند (مثل نماذج أخرى من العلاقات العربية العربية)، على وجود وشائج مجتمعية وثقافية وتاريخية قوية، على الرغم من محدودية قدرة النظامين، المصري والسعودي، على ترجمة هذه المصالح المشتركة؛ ما يؤكّد أمرين؛ أحدهما أن اللوم في تدهور العلاقات لا يقع على الشعوب، بقدر ما تتحمّل مسؤوليته النخب الحاكمة في البلدين وإدراكاتهما المتغيرة للمصالح والسياقات الإقليمية والدولية. والآخر قصور أدوار الجامعات ومراكز الأبحاث العربية في توفير رؤى استراتيجية تضمن سلامة مسارات العلاقات العربية البينية، وحل مشكلاتها من جذورها (بدل تسويتها/ تهدئتها آنيًّا قبل أن تعود للتوتر مجددًا).
باختصار، يكشف تحليل مسار العلاقات المصرية السعودية أن "الإطار الرسمي العربي"، ومؤسسته الأبرز، جامعة الدول العربية، يدخلان في مرحلةٍ جديدة من التدهور/ الصراع، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات خطرة، نتيجة غياب الفاعلين العرب عن تقرير مصير المنطقة، في ظل تعاظم/ هيمنة تأثيرات القوى الدولية والإقليمية عليها، وإضعاف الدول العربية المحورية تباعًا (العراق، سورية، مصر، السعودية، الجزائر)، وإشغالها في صراعاتها البينية. ومع الإصرار على تغييب القضية المحورية (قضية فلسطين)، فقدَ الإطار العربي بوصلته والحد الأدنى من تماسكه، في ظل مقاربات التطبيع/ التسوية مع إسرائيل، التي أدخلتها "لاعبًا مؤثرًا"، لكيلا نقول "فاعلًا مهيمنًا" يخترق العلاقات العربية البينية، ويؤجّج تنافس الدول العربية على التقارب مع دولة الاحتلال، بدل "مقاطعتها/ عزلها" وفرض العقوبات عليها.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.