سؤال العقلانية في الخطاب السياسي لجماعة العدل والإحسان
في الإطلالات السياسية والإعلامية لجماعة العدل والإحسان المغربية أخيرا، والتي أنتجتها في سياق مشحون بتوتر القضايا الوطنية والإقليمية، يستوقفك خطابها السياسي الذي حمل معه عرضا ومَوْقفا. وهو ما يستحق وقفة تأمل وتحليل، تتسلّح بسؤال "العقلانية" (لنقل المعقولية أيضا)، في محاولة استكناه هادئة لجوانب من المشروع السياسي لواحدٍ من أكبر التنظيمات الدعوية والسياسية في المغرب.
ولأننا بصدد مقال تحليلي، فالأرضية التي سيعتمدها لن تغوص عميقا في الأوراق السياسية التي تصدرها دائرتها السياسية والمرجعية النظرية التي صاغها مؤسسها ومرشدها، عبد السلام ياسين، وإن كان ذلك سيشكل خلفية في القراءة، ومرتكزا ثاويا في التعاطي مع "المستندات القريبة"، هذه الأخيرة التي سينطلق منها وإليها هذا التحليل/المساءلة. وهي المستندات التي صدرت في السياق الراهن، والمقصود هنا، تحديدا، بيان مجلس الإرشاد الصادر بتاريخ 11 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ردا على قرار المغرب تطبيع علاقاته مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وحوارا رئيس الدائرة السياسية عبد الواحد متوكل والأمين العام محمد عبادي مع كل من الموقع الإلكتروني للجماعة "الجماعة نت" وموقع "عربي 21" على التوالي.
أولا: رسوخ في الخيار عزّزته دروس "الربيع العربي"
المتتبع لخطاب جماعة العدل والإحسان المغربية يستوقفه اشتباك دائم مع الواقع المتحرّك، اشتباك ينسجم مع موقع الجماعة في الحقل السياسي المعارض من جهة، ومحكوم بالنظر إلى ما وراء اللحظة السياسية وإكراهاتها من جهة ثانية. لذلك كثيرا ما يقع التناقض والارتباك في قراءة خطاب الجماعة والتباسات المرحلة التي يستهدفها، فيُنظر إليه حينا على أنه مغرق في التفاصيل متمادٍ في الواقعية، ويُنظر إليه حينا آخر على أنه حالمٌ في الطرح مغرقٌ في المثالية!
وكانت مثل هذه القراءات المتناقضة وستستمر، وهي تحاول فهم العقل السياسي للجماعة وآلياته ومنطقه وتقديراته ومواقفه، لكن ما يهم هنا، انسجاما مع رهانات المقال، الوقوف عند واحد من أهم الأصول السياسية التي ينبني عليها العرض السياسي الذي تقدّمه الجماعة للفاعلين في المغرب؛ سلطة ونخبة ومجتمعا.
يحترم خطاب الجماعة "العقلانية السياسية" ومستلزماتها؛ من توازنٍ بين طبيعة التطلعات وحجم الإكراهات
في المرتكزات التي يستند إليها الميثاق الذي تدعو إليه جماعةُ العدل والإحسان مختلفَ الفرقاء، وهو ميثاقٌ يروم التأسيس لمسار سياسي جديد، مغاير للنسق القائم، من حيث فلسفته ومرماه وآلياته، ذكر أمينها العام أربعة مرتكزات، يتمحور اثنان منها حول فكرة تُكرّرها الجماعة في مناسبات عديدة؛ عدم إقصاء أي طرف، والدعوة إلى حَلٍّ جماعي مُؤَسَّس على حوار مَفتوح على كل القضايا مُنفتح على الأطراف كافة. وهو ما شدّد عليه رئيس الدائرة السياسية أيضا حين عرض مسألة التغيير السياسي، مُنوّها إلى قاعدتين صلبتين فيما تقترحه الجماعة؛ ضرورة استيعاب كل الخلفيات الفكرية داخل البلد، والعمل المشترك والتلاقي على أرضيةٍ مشتركةٍ تركز على الأولويات والمتفق عليه. ليؤسس على ذلك خمس خطواتٍ تقترحها الجماعة على كل المتدخلين والمعنيين بالشأن العام في المغرب: تنطلق بحوار وطني يُفضي إلى ميثاق جامع، تنبثق عنه جمعية تأسيسية لوضع دستور ديمقراطي، يعبر عن إرادة المغاربة، فانتخابات حرّة ونزيهة، انتخابات تراعي أن الميثاق يضع أقدام الوطن على مرحلةٍ انتقالية، ومن ثم الحاجة إلى حكومة وحدة وطنية، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات لضمان الاستقرار اللازم لحساسية المرحلة، وأخيرا إعلام عمومي مسؤول وغير متحيز يعكس كل التوجهات المجتمعية.
التأمل في هذا الخطاب السياسي، الذي يحمل عرضا سياسيا، يجعلنا نقف على جملة سماتٍ تبصم خطاب الجماعة وموقفها وسلوكها، فهو يحترم "العقلانية السياسية" ومستلزماتها؛ من توازنٍ بين طبيعة التطلعات وحجم الإكراهات، ونزوع إلى الحوار والمشترك والابتعاد عن لغة الغلبة والإقصاء، ودعوة إلى تعزيز الآليات الديمقراطية ورفض السلطوية.
وبقدر ما ينبغي الانتباه إلى أن هذه المرتكزات تشكل ثوابت في المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان، فهي قديمةٌ ومتأصّلةٌ وليست وليدة خيارات تكتيكية، أو رهاناتٍ مرحلية أوجبتها إكراهات اللحظة وتحولات الساحة، يلزم الإشارة إلى أن هذا الخيار اتّخذ مصداقية أكبر مع حقائق مؤسفة كشفها الربيع العربي. ذلك أن سلوك نخب سياسية كثيرة في البلدان التي شهدت تحولاتٍ سياسية هائلة، مسّت، في مرحلتها الأولى، بنية السلط وأنظمة الحكم، كشف نزوعا رديئا نحو الغلبة والانتصار لمنطق الغنيمة والقبيلة السياسية، وقدّم وعيا نخبويا طُفوليا بطبيعة التحول السياسي وحجمه وعمقه وتحدّياته، لتنكشف أعطابٌ غائرة في النخبة السياسية والمدنية والدينية التي طالما تصدّرت المشهد ووعدت بالإصلاح، ولتشكل هذه النخبة واحدةً من أهم العقبات التي اعترضت مسار التغيير، وأسهمت بشكل وافر في إجهاض حلم الشباب.
خطّ عبد السلام ياسين لنفسه، ومعه جماعته، مسارا مُتفرِّدا، مغربيا خالصا غير تابع للتجارب الإسلامية المشرقية السبّاقة، مسارا جمع فيه بين التنظير الفكري والطرح السياسي
إذا كان العرض الذي تقدّمه جماعة العدل والإحسان يستحضر عناصر متعدّدة مُؤَسَّسية وقانونية وثقافية وسياسية، فإنه يرهن ذلك كله بإرادة النخب ووعيها، باعتبارها قاطرة التغيير المنشود، ويربطه بالتأسيس لـ"ميثاق غليظ" يجمع شتات هذه النخب، ويؤلف إرادتها ويدفع عنها التنازع، ويضعها في موقعها الطبيعي من رهانات المجتمع وطموحه الديمقراطي.
ثانيا: رفض للاستبداد ونأي عن "الإجماع المصطنع"
يرى باحثون ومهتمون أن مُؤسّس جماعة العدل والإحسان المغربية، عبد السلام ياسين، خطّ لنفسه، ومعه جماعته، مسارا مُتفرِّدا، مغربيا خالصا غير تابع للتجارب الإسلامية المشرقية السبّاقة، مسارا جمع فيه بين التنظير الفكري والطرح السياسي، وبين السلوك التربوي والتدافع النضالي، مستحضرا البيئة المغربية التي ينتمي إليها وثقافتها وفقهها وعرفها ونظامها الاجتماعي العام، فكان الرجل أحد المصلحين الكبار والمعارضين الشرسين؛ الذين واجهوا واقعهم المختلّ بقوة لا هوادة معها، وخاطبوا السلطة والسلطان بصراحةٍ لا لبس فيها. ومع هذا، انحازوا إلى الحكمة والرحمة والرفق، ونبذوا العنف والعَجَلة والفوضى، واختطّوا لأنفسهم ولتلامذتهم مشروعا مجتمعيا يصعب تجاوزه.
وإذا ما أردنا أن ننقل هذا الخط إلى ميدان السياسة حصرا، فإن مرشد الجماعة، وبقدر ما آمن أن إصلاح الحكم مدخل شَرْطي لإصلاح الأمة، ترك الخيارات والمداخل مفتوحةً لتعدّد التجارب، ولتقديرات العاملين، ولتقييمات المراحل بحسب الوقائع، وتعدّد حالاتها في البلد الواحد وفي البلدان المختلفة. وهو في هذا كان يدرك تعقيدات السياسة وتنوع مساراتها، فالتغيير يمكن أن يأتي من "تحت"، من القاعدة المجتمعية، بتغيير هادر وموجة احتجاجية هائلة، بقدر ما يمكن أن "تسنح به فرصة" (بحسب تعبيره)، تأتي بها التحولات ويجود بها القدر، من دون أن يلغي تماما إمكانية أن يأتي التغيير من "أعلى"، من جهة الحاكم، إن أراد أن يُجدّد الصلح مع الأمة، ويستأنف المسار. ويسجل اسمه في التاريخ (ولهذا وجه رسالتين مفتوحتين/ نصيحتين للملكين الراحل الحسن الثاني "الإسلام أو الطوفان" عام 1974 ولخلفه الملك محمد السادس "مذكرة إلى من يهمه الأمر" عام 1999).
والرجل في هذا كله، وهو ما أصّلته الجماعة بدورها على مدار تاريخها، كان معنيا أساسا بشيء جوهري ومفصلي: استقرار نظام الحكم على قاعدة الشورى (إرادة الأمة)، ونبذ الاستبداد والظلم والتسلط والفساد، واشتراط أن تكون السلطة في خدمة الإنسان ومطمحه الفطري إلى الحرية والكرامة والعدالة.
إذا كان هذا هو الهدف العدلي، بحسب لغة الجماعة وثقافتها، فإن وسائل العمل ومداخل التغيير والإصلاح، المشدودة إلى خط عملها السياسي، انطبعت بدمغةٍ حاسمةٍ باتت محلّ إجماع معارضيها قبل مؤيديها، وهي رفضها المطلق والباتّ العنف السياسي (في مواجهة السلطة والنخبة)، وهجرها ما يمتّ بصلة لوسائل الإكراه الثقافي والاجتماعي (في تعاملها مع المجتمع المتعدّد).
للجماعة موقفٌ واضحٌ من نظام الحكم في المغرب، وهو ما جرّ عليها وما يزال صنوفا متنوعة من التضييقات والسجون، فهي ترفض أن تمنحه "شرعية الاعتراف" أوّلا، وتأبى أن تنسلك في مسار "تطبيع العلاقة" معه ثانيا، لأنها ترى أنه لم يتأسّس على إرادةٍ شعبيةٍ حرّةٍ ابتداء، ولأنه يدبر الحكم بالاستفراد والتسلط والابتعاد عن مقاصد الشرع الحنيف انتهاء. وهو الموقف الذي تستدعي ما يسنده ويدعمه من داخل المسار السياسي العام في المغرب، ومن تجاربه الدستورية، وآخرها دستور 2011، ومن الممارسة السياسية اليومية لنظام الحكم ومؤسساته.
"العدل والإحسان" لا تجادل في مغربية الصحراء، ولكن لها تحفظاتها المرتبطة بتدبير الدولة الملف
في بيان مجلس الإرشاد وحواري عبادي ومتوكل، يلمس المتتبع قوةً في الخطاب، وجرأة تجاه نظام الحكم، وموقفا حازما من طريقة تدبيره (إدارته) السياسي، وجديده ما رأت الجماعة أنه مقايضة لقضية الصحراء المغربية بقضية فلسطين العادلة، عبر قبول التطبيع مع كيان الاحتلال. ولعله من الأشياء التي أثارت لغطا وتوترا صمت الجماعة في أزمة ما عرف بالكركرات جنوب المغرب، ليستنتج منه بعضهم أن الجماعة تميل إلى خرق الإجماع الوطني تجاه قضية وطنية. في حين رأى آخرون، كالإعلامي والجامعي إسماعيل حمودي، أن الصمت موقف من الجماعة، حيث ذكّر بأن "العدل والإحسان" لا تجادل في مغربية الصحراء، ولكن لها تحفظاتها المرتبطة بتدبير الدولة الملف، ومن ثم سكتت حتى لا تشوّش على لحظةٍ ميّزتها حساسية خاصة، لتفوّت على الخصوم استغلال وتوظيف "كلامها" وموقفها.
وكيفما كان الحال، الابتعاد عن شيء من التسطيح السياسي، المدعوم ببروباغندا لا يعنيها سوى التجييش وإيجاد حالة من "الإجماع المصطنع"، من شأنه أن يضعنا أمام أبجدياتٍ في العمل السياسي لا تخفى، منها أن حسابات الربح والخسارة وهوامش المناورة ليست خاضعةً دائما للموقف المبدئي من القضية، بل ترتدّ عميقا إلى الموقف من مدبري القضية، كما تنظر راهنا في طرق تدبيرهم لها. ومنها أن حسابات "إنتاج المواقف" تستحضر بشدّة تحاشي تقديم "المواقف المجانية" في المعارك السياسية. وهي الأبجديات التي لا ينبغي إغفالها، ونحن نقرأ مسارات الأحداث ومواقف الفاعلين منها. وِفق ذلك، وعلى الرغم من طبيعة العلاقة المتوترة بين السلطة والجماعة، قد لا نخطئ إذا ما غامرنا بالقول إن الدولة، أو جهاتٍ فيها على الأقل، قرأت صمت الجماعة حينها بشكل إيجابي، لأنها تعرف جيدا موقف "العدل والإحسان" من نظام الحكم ومن تدبيره قضية الصحراء. وبذلك، وبحسب قراءة براغماتية، خرج الجميع رابحا لحظتها من حالة الصمت؛ الجماعة والدولة معا.
بل بدا فيما بعد، حين اكتملت حلقات السلسلة، أن الجماعة تقدّر اتجاهات اللُّعبة ومسارات الأحداث في الداخل والمنطقة، ليبدو لاحقا أن تلك الأحداث مُقبِّلات وبَهَارات لطبخةٍ كانت تستوي، ولاعبا ضمن رقعة شطرنج قرار ترامب (التطبيع مقابل الصحراء). ولتُبرِز الجماعة "ورقة" موقفها الإيجابي من مغربية الصحراء في "اللحظة المناسبة"، مقابل إدانتها القوية مقايضة هذه القضية بقرار التطبيع.
ثالثا: ورش مفتوحة يحتاجها "المغرب المُتعدّد"
لأن لجماعة العدل والإحسان موقفا من السلطة السياسية في المغرب، تُذيِّله بمنهج عملٍ بعيد عن العنف والإكراه، يبتغي طرحُ الجماعة السياسي تغييرا عميقا وهادئا يتأسّس على حوار وطني وميثاق تشاركي يشمل نخبة المغرب وقواه الحيّة، فالجماعة، وفق هذه الرؤية، قوة اقتراحية معنية بحاضر البلد ومستقبله.
تنحاز "العدل والإحسان" إلى الدمقرطة، من حيث الآليات والتدابير والأطر السياسية والمدنية. ولأنها ترى أن الواقع خاضع لحكم غير ديمقراطي، تنتهج خيار المعارضة من خارج المؤسسات الرسمية
قد يبدو غريبا القول إن "العدل والإحسان" تشكل أحد صمّامات أمان الدولة في المغرب، سواء على مستوى طبيعة الديناميات المجتمعية الداخلية التي يمكن أن تكون وراءها، أو على مستوى رفضها أن تكون مَعْبَرا لأي قوة خارجية. وهي فعلا كذلك، لو جرى التمييز، كما في العلوم السياسية، بين الدولة والنظام، وإن تقاطعا في اللحظة السياسية، فالدولة أرسخ من النظام في البنية الثقافية والاجتماعية، وأكبر في البناء المؤسّسي، وأوسع في الامتداد المجالي. والجماعة، بحسب أبجدياتها المتاحة أمامنا للفحص والنظر، تعارض نظام الحكم الذي تراه مستبدّا، وتنحاز للدولة بما هي كيان يعلو على السلطة، وبما هي مِلك مشترك لسائر المغاربة.
يمكن أن نستحضر هنا ثلاثة ثوابت في الخط السياسي للجماعة، تعزّز هذا القول:
- أعاد رئيس الدائرة السياسية، عبد الواحد متوكل، في حواره مع موقع "الجماعة نت"، تأكيد رفض "العدل والإحسان" التدخل الأجنبي، وصون القرار الوطني من أطماع الخارج، دولا وحركات ومحاورَ. وهو إن كان، في دعوته هذه، يتجه إلى السلطة الحاكمة، حتى لا ترهن مصير المغاربة إلى الخارج، وتربط القرار الوطني بحسابات غير وطنية، فإنه يقدّم هذا المرتكز باعتباره من أساسات العرض السياسي الذي تقترحه الجماعة على الفرقاء السياسيين والمدنيين في أي تغيير أو إصلاح للأوضاع في البلد.
- إذا كانت الجماعة، منذ تأسيسها مطلع ثمانينيات القرن الفائت، رَفَضت العنف السياسي ضمن ما يعرف بلاءاتها الثلاث (لا للعنف، لا للعمل السري، لا للتبعية للخارج)، وتبنَّت خيار السلمية في التغيير مبدأً شرعيا وحكمةً سياسية، في فترةٍ كان لخيار العنف الثوري والجهادي بريقه وسطوته، فإن قرابة الأربعين سنة من العمل الدعوي والاجتماعي، ومن المعارضة السياسية، مع ما واكبها من اعتقالاتٍ وسجونٍ وتدافع ميداني، أوضحت أن "العدل والإحسان" تبني عملها السياسي على الانغراس في الواقع والثبات عند الابتلاءات والانخراط في المبادرات، مع انتهاج كل الآليات السلمية السياسية والمدنية القانونية، وعدم التسامح مع أدوات العنف في الخطاب والممارسة وأشكاله وأنماطه.
- تنحاز "العدل والإحسان" إلى الدمقرطة، من حيث الآليات والتدابير والأطر السياسية والمدنية. ولأنها ترى أن الواقع خاضع لحكم غير ديمقراطي، تنتهج خيار المعارضة من خارج المؤسسات الرسمية، وتشتغل من داخل فضاءات المجتمع المختلفة والمتاحة، وذلك وفق خيارٍ يمكن أن يصطلح عليه بـ"المعارضة العاقلة"، فليس من تكتيكات عملها "منطق التأزيم" الذي يروم وضع السلطة في الحرج ولو على حساب المجتمع، وليس من فلسفتها الدخول في معارك التغيير مهما كانت "كُلْفَتها" السياسية والبشرية والأمنية، ولعله ضمن هذا السياق يمكن قراءة توقيف نشاطها داخل حركة 20 فبراير يوم أصبح الحراك سنة 2011 لا يُحدث الأثر التغييري المطلوب، وحين قدّرت أن ميزان القوى لا يسمح لها بالمغامرة بأرواح الناس، والدخول بهم في منعطفاتٍ غير مأمونة العواقب.
تقدّم الجماعة نفسها باعتبارها عامل إجماع لا تفرقة؛ فالميثاق الذي تقترحه تطرحه أمام جميع من يريد إصلاح الأوضاع من دون إقصاء
إذا كانت تلك بعض ثوابت خط هذا التنظيم المغربي، وبعض الوظائف التي يمكن أن يلعبها؛ وهي تتموّج من خيار ذاتي يتبنّى السلمية ويرفض العنف، إلى مطلب وطني يرفض التسلط ويطلب الديمقراطية، إلى رؤيةٍ تتحفظ أن ترهن نفسها ووطنها لما وراء الحدود، قلت إذا كانت تلك بعض الثوابت في اتجاه علاقة الجماعة بالدولة، فإن علاقتها بالمجتمع والنخبة تضعنا أمام ثوابت أخرى وأدوار لا تقل أهمية. هنا ثلاثة منها:
- تقدّم "العدل والإحسان" نفسها باعتبارها عامل إجماع لا تفرقة؛ فالميثاق الذي تقترحه تطرحه أمام جميع من يريد إصلاح الأوضاع من دون إقصاء، وهي في هذا لا تعتبر المشترك الإيديولوجي هو معيار الائتلاف من أجل التغيير، بل ترى أن الموقف السياسي هو ما ينبغي أن يشكل منطلقا لتلاقي الإرادات الجادّة. وإذا كان خيار الميثاق والحوار الوطني عتبةَ مسار سياسي جديد، وبالتالي فالجماعة تطرحه لزمانه، فإن السلوك السياسي للجماعة، في مسألة العلاقة بالآخر، يمتح من هذا المعين، ويمضي في تجاه التعارف والتفاهم والتفهُّم. ولعل عديدا من أنشطتها الخاصة التي تستضيف فيها أطرافا وفئات متنوعة من الطيف المغربي، ناهيك عن رفضها الاستفراد في التعاطي مع الحراكات الاحتجاجية، يعطي صورة كافية عن حقيقة هذا الثابت.
- "العدل والإحسان" تنظيم متماسك، لا يجمع أعضاءه رباط من قوانين ومؤسسات تنتظم عملهم وكفى، بل تشتغل الأداة التربوية والتعليمية والتثقيفية على مدار العام، من أجل تأهيل الشباب وتأطير النساء والرجال وتخريج الأطر والكفاءات. إننا بإزاء "آلةٍ تنظيمية" هائلة ومتشعبّة، تتوزّع على طول خريطة المغرب، وتشتغل على أكثر من مستوى وواجهة؛ تضع الأهداف وتسطّر البرامج، وتنزل إلى التنفيذ وتوزع الأعمال وتقسّم الأعضاء وتحددّ المسؤوليات، لنجد أنفسنا، في نهاية المطاف، أمام ورش حقيقية مفتوحة على طول الأيام للتأطير والتأهيل والتربية والتوعية.
في هذا الصدد، وفي شقّ العمل السياسي، تنكبُّ مؤسسات الدائرة السياسية، ومنها ثلاثة قطاعات شبابية ونسائية ونقابية ومؤسسات أخرى حقوقية ومكاتب خبرات ودراسات، ناهيك عن فروع وأقاليم، على إعداد فاعلين ونخب، وعلى إنتاج مقترحاتٍ ومشاريع سياسية تتعاطى مع الواقع وتقترح للمستقبل.
وظيفة الجماعة، كما تتصورها، في المجتمع وفضاءاته الاجتماعية والمدنية والثقافية أَوْلى وأهم من دورها في معترك السياسة
- تشكّل طبيعة الجماعة وهويّتها عنصرا هاما في تحليل خطّها ومنهاجها وأهدافها السياسية، إذ لا يخفى أن "العدل والإحسان" تعرّف نفسها بأنها حركة إسلامية همّها الأول تربية أعضائها وتأهيلهم إلى التطلّع إلى مقامات العبودية والترقي في مدارج السلوك إلى الله (وهي في هذا تعطي معنىً أعمق للتربية عن تيارات إسلامية كثيرة، بتركيزها على صحبة الصالحين صحبة تربية وسلوك وبالإكثار من الذكر والعبادات). أما همّها الثاني فهو دعوة عموم المسلمين من أبناء بلدها إلى التّخلّق بأخلاق الإيمان، ونقل الدّين من زوايا الخلاص الشخصي ليكون فاعلا في حياة المجتمع، باعتباره محرّكا إيجابيا للنوازع والإرادات، ومن ثم للأعمال والسلوكيات في الحياة اليومية. وبالموازاة مع هذين الرهانين، تأتي مطالب السياسة وشؤون العمل السياسي. وبناء عليه، يمكننا القول إن وظيفة الجماعة، كما تتصورها، في المجتمع وفضاءاته الاجتماعية والمدنية والثقافية أَوْلى وأهم من دورها في معترك السياسة، فالسياسة بحسبها وسيلة والتربية غاية، والعدل للإحسان كما تقول.
هذا المعطى البنيوي، وبقدر ما من شأنه أن يبث مزيدا من الطمأنة في رَوْع النخبة تجاه نيات الجماعة بخصوص السلطة مستقبلا، ما دامت أنها حركة تربية ودعوة، وأن السياسة بعض شأنها، لا كل همّها، بقدر ما يدعم جبهة المجتمع وقواه المدنية والدعوية والجمعوية والتربوية والثقافية بفاعلٍ يشتغل أساسا على عمق الإنسان وصلاحه، وتروم برامجه تأهيل المواطن التأهيل المتوازن.
هي ثلاثية أخرى، تُقدّم عبرها الجماعة نفسها إلى المجتمع ونخبه هذه المرّة؛ فهي داعية حوار لا إقصاء وعنصر تجميع لا تفريق، وهي ورش مفتوحة لتخريج النخب السياسية وإنتاج التصورات، وهي فاعل في جبهة المجتمع تستهدف تخريج المؤمن الصالح الفاعل في محيطه.
إذا كنّا، في هذا المقال، قد ساءلنا "عقلانية" الخطاب السياسي لجماعة العدل والإحسان، سواء على مستوى موقفها من نظام الحكم في المغرب، أو على مستوى العرض السياسي الذي تطرحه من أجل التغيير والإصلاح، فإننا قد وقفنا أيضا عند وظائف، هي للموافقة ثوابت، ترشّح الجماعة نفسها للقيام بها، بعضها تجاه الدولة، على خلاف ما هو مُتصوَّر، وبعضها الآخر تجاه النخبة والمجتمع.