العرب والتكنولوجيا: الفراغ المزمن
في الصراع الدولي الدائر على أشدّه بين الولايات المتحدة والصين، والذي اتخذت الدولتان الكبيرتان حياله إجراءات عسكرية واقتصادية وسياسية، انعكست على مناطق مختلفة، منها منطقتنا العربية، فإن ثمّة اعتقادا أن بكين تسعى إلى ملء كل فراغ في العالم يتركه خصمها الأميركي، وأن واشنطن تسعى إلى منع خصمها الصيني من مدّ نفوذه إلى مناطق تأثرت بالغياب الأميركي الناتج عن تركيز الولايات المتحدة على منطقة شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ. وهذا الاعتقاد صحيحٌ نسبياً في مناطق مثل أفريقيا والدول اللاتينية وجزر المحيط الهادئ، حيث سارعت الصين إلى تقديم عروضها الاقتصادية والاستثمارية ضمن مبادرة الطريق والحزام لإنعاش التنمية في تلك البلدان، بينما راحت الولايات المتحدة تحذّر حكوماتها من المخاطر الأمنية للحضور الصيني فيها، الذي يأخذ (من وجهة نظر أميركية) غطاءً اقتصادياً وتنموياً، فيما جوهره سياسي استعماري، صاغته الولايات المتحدة في فكرة "فخّ الديون"، التي مفادها بأن الصين تفرض ديوناً ضخمة على الدول النامية التي تستفيد من مشروعاتها التنموية، بشكلٍ لا يمكّنها لاحقاً من الوفاء بالتزاماتها في السداد، ما يتيح للصين الاستيلاء على أصول تلك الدول، وبشكل خاص موانئها وبناها التحتية، لتستفيد منها مستقبلاً في تمركزها العسكري ونفوذها السياسي في العالم.
حضور الصين في منطقة الخليج العربي اليوم هو لبناء شراكات مع دولها تقوم على المساعدة في توفير الأجيال الجديدة من التكنولوجيا الصناعية
لكن تعميم تلك الفرضية القائمة على "ملء الفراغ" الأميركي في المنطقة العربية، ليس دقيقاً، خصوصاً بالنسبة لمنطقة الخليج العربي التي تبدو مختلفة عن مناطق العالم النامية في مسألتين: أولاهما، عدم حاجتها للأموال الصينية لكونها دولاً غنية، بشكلٍ يعفيها من حيث المبدأ من الوقوع في "فخّ الديون" المفترض. وثانيتهما، أن الفراغ الموجود في هذه المنطقة لا يتحدّد فقط في ذاك الأمني والعسكري والسياسي الناتج عن تركيز الولايات المتحدة سياسياً وأمنياً على غرب المحيط الهادئ، وإعادة نشر قواتها العسكرية فيها على حساب مناطق وجودها التاريخي بما فيها المنطقة العربية، ذلك أن الحال القائم في المنطقة العربية منذ عقود طويلة يتمثل في "الفراغ التكنولوجي" الذي يساعدها على التحوّل إلى دول صناعية ناهضة تنموياً، وهو فراغ أدامته الولايات المتحدة منذ ظهورها على المسرح العالمي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة حساباتها الأمنية في المنطقة المتعلقة أساساً بوجود حليفتها إسرائيل. وهكذا كان حصول الدول العربية على التكنولوجيا الصناعية غائباً تماماً عن العلاقة التي نسجتها الولايات المتحدة وحليفاتها في الغرب مع الدول العربية النفطية، فظلّت المعادلة التي تحكم صلة الطرفين تتركّز في فكرة "النفط مقابل الحماية الأمنية"، وهي علاقة لا وجود فيها للتنمية الحقيقية والجذرية.
هكذا، حضور الصين في منطقة الخليج العربي اليوم هو لبناء شراكات مع دولها تقوم على المساعدة في توفير الأجيال الجديدة من التكنولوجيا الصناعية، مقابل الحصول على النفط العربي (النفط مقابل التكنولوجيا) إلى جانب استكمال مشروعات مبادرة الطريق والحزام وتوسيع حضور الصين العالمي والتدخل في ملفات الخلاف الإقليمية ومحاولة حلها، وهو لا يمثل سعياً إلى ملء فراغ تتركه الولايات المتحدة، فالأخيرة لم تكن تملأ هذا الفراغ التكنولوجي أصلاً، بل هو فكرة جديدة بالكامل، تستجيب لتطلعات تلك الدول في تحويل اقتصاداتها من ناميةٍ إلى صناعية، ومن توظيف ثروتها في الاستثمار المالي والعقاري إلى توظيفها في الاستثمار الصناعي والتنمية المستدامة في كل المجالات، في إطار رؤية مستقبلية طموحة للتحوّل إلى دول مؤثرة عالمياً بشكل يتناسب مع قدراتها وخيراتها وإمكاناتها.
تحاول الولايات المتحدة التركيز على المقاربة الأمنية في التحذير من العلاقة مع الصين في منطقتنا
ومعنى ذلك أن عودة الولايات المتحدة الكاملة إلى المنطقة، وطرد الصين منها على شاكلة مساعيها في أفريقيا وأميركا اللاتينية، ربما تكون قد تأخّرت كثيراً وفات أوانها، لأن من غير المتصوّر أن تعود لتُناقض نفسها وتوفّر الأجيال الجديدة من التكنولوجيا المتطورة؛ المدنية والعسكرية، للدول العربية في منطقة الخليج. وهذا ما يفسّر محاولة الولايات المتحدة التركيز على المقاربة الأمنية في التحذير من العلاقة مع الصين في منطقتنا، وهو أمرٌ لم يلق آذاناً صاغية، خصوصاً من السعودية التي نسجت أوثق علاقة عربية مع الصين لتحقيق رؤاها التنموية، كما جرى لدى زيارة وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، جدّة قبل بضعة أسابيع، حين لم يجد مجالاً للتعبير عن تلك الرؤية الأميركية، على ما قالت وسائل إعلام أميركية يومها.
إذا تمكّنت الدول العربية المؤثرة في منطقة الخليج العربي من المضي في هذا التوجّه، القائم على الاستفادة من الطموحات الصينية لتوسيع حضورها اقتصادياً واستثمارياً، وضمان الحصول على النفط العربي بشكل مستدام يخدم رؤى بكين لزيادة حجم اقتصادها كي يكون الأكبر في العالم مع حلول منتصف القرن الحالي (بحسب الخطط الصينية المعلنة)، فإننا نكون اليوم إزاء نقطة تحوّل كبرى في تاريخ منطقتنا، مدفوعةً لا برغبة تلك الدول العربية في تعظيم نجاحاتها وحضورها الدولي وحسب، بل كذلك بضرورة تنويع اقتصاداتها قبل أفول عصر النفط. رغم ذلك، علينا أن نتمهّل قليلاً بشأن مقدار التوقّعات إزاء فرص مضي الأمور على هذا النحو، لأنها مرتبطةٌ بالسياسة الدولية وتغيّراتها، خصوصاً وأن العالم يترقّب انتخابات رئاسية أميركية مفصلية مع نهاية العام المقبل.