العرب عرب والصابون صابون
ما إن يتحدّث كاتبٌ، أو ناشط سوري، عن جرائم ارتُكبت في عهد حافظ الأسد، أو وريثه القاصر، حتى يردّ عليه أحد القراء، بلهجة العارف الواثق: يا سيدي، كلّ الحكّام العرب هكذا .. هنا، في الواقع، يصحّ فينا المثل الشعبي: "كله عند العرب صابون"... إذ يُحسَب الصابون الغار، الحلبي الأصلي ذو البراميل الأربعة، بسعر الصابون المفشفش الذي توزّعه إدارةُ التعيينات في الجيش العقائدي السوري على العساكر، لكي يستحمّوا، خشية أن يصابوا بالقمل والصئبان والجرب، مثل صابون FA الفرنسي ذي العلبة الخضراء الأنيقة .. ومن الطريف أنّ أهل اللاذقية القدماء يستخدمون كلمة "فا" بمعنى "في"، أي يوجد... وذات يوم، دخل أحدُهم دكاناً، وسأل صاحبه: فا صابون FA؟ فأجابه البائع: صابون فا، لَاكِنْ صابون FA ما فا.
إذا كان المتحدثُ عن ديكتاتورية الأسد ذا نَفَس قصير، سرعان ما يتجاهل التعليق، ويمضي. وإذا كان معلاقُه كبيراً، مثل كاتب هذه الأسطر، فإنّه يردّ عليه: لا والله يا صاحبي، لم تحزر، الحكام العرب ليسوا كلهم سواء كما تفضلت، ولتعلم أنّك إذا استثنيتَ نظامَي حافظ الأسد في سورية، وصدّام حسين في العراق، ستجد الديكتاتوريات العربية كلّها "ألعاب عيال"... عندما بدأت أول انتفاضة مما اصطلح على تسميتها "ثورات الربيع العربي" في تونس، وغادر الرئيس زين العابدين بن علي بلاده، كتبتُ مقالة في صحيفة النور السورية أطلقت فيها على بن علي لقب الديكتاتور الظريف.. والآن، كلما خطر ببالي أن أقارن أحداث الثورة التونسية بمآلات الثورة السورية، أتذكّر حكاية شقيقي الذي سُجن في إدلب شهرين، نتيجة حادث سير. وفي السجن، لاحظَ زعيمُ القاووش، المحكوم 15 سنة قابلة للتمديد، شروده، فقال له: شايفك زعلان، عليّ الطلاق بالثلاثة أنا أنام الشهرين مقلوباً على رأسي في المرحاض!
نحن السوريين، والعراقيين الذين اكتووا بجحيم حكم صدّام حسين، عندما نتابع الإعلام المصري، سواء المؤيد للنظام السياسي القائم منذ 1952 (جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك، محمد مرسي، عبد الفتاح السيسي)، أو معارضاً له، ينتابنا الضحك، إذ نسمعهم يقولون إنّ فلاناً من المعارضين غَضب منه رجال المباحث، فلفّقوا له قضية .. وعلّاناً ما زال يُحاكم بتهمة كذا وكيت، وفليتاناً سُجن ظلماً وعدواناً سنة، أو سنتين. وأحياناً يبرئ القضاء متهماً على نحو معاكس لرأي السلطة الحاكمة، ولا يجرؤ أحد أن يقول للقاضي ماذا فعلت .. ومما يرويه علاء الأسواني أنّ أحد معارضي السيسي فرضوا عليه، بعد خروجه من السجن، أن يراجع قسم الشرطة مرّة في الشهر، ويبقى هناك حتى الصباح وهو يعاني من معاملة الحراس السيئة.
روى الأستاذ نادر جبلي أنّ أحد أصدقائه، وهو معارضٌ مخضرم، زار أحد رؤساء الأفرع الأمنية. وخلال ذلك، تجرّأ فتحدّث عن مبادئ دستورية، ومواد قانونية تتعارض مع ما يتصرّف به رجال الأمن، فما كان من الضابط إلّا أن وقف، وطلب منه مرافقته إلى النافذة، وهناك أشار إلى سور الفرع، وقال: الدستور والقانون وهذه الأشياء التي تتحدّث عنها موجودة خارج هذا السور.
في رواية "الحفيدة الأميركية" للعراقية إنعام كجه جي، يعتقل والد الراوية زينة بهنام، وهو مذيع تلفزيوني مشهور، واستمر اعتقاله أسبوعين، يعود بعد ذلك مكسّر الأسنان والضلوع، وقد ضُرب لسانه بآلة حادّة. وتبين، لاحقاً، أنّ سبب الاعتقال تقرير كُتب بحقه، يشير إلى أنّه وصف نشرة الأخبار بأنّها طويلة ومملّة. وعندما طُرح موضوعه أمام مسؤول بعثي صديق للعائلة، ضحك وقال: وهل تعتبرون هذا تعذيباً؟ أين شاهدتم التعذيب الحقيقي؟ ونصحهم بأن يفرحوا، ويضحكوا في سريرتهم، لأنّه خرج، فالداخل عندهم غير الخارج.
باختصار، السجين في بلادنا ينطبق عليه وصف الكاتب محمد برّو عندما أعفي من حكم الإعدام فصار يبكي، لأنّه بقي حياً في مواجهة تعذيبٍ لا تطيقه الجبال.