العراق والمسار المقبل الصعب

26 مارس 2021

في مظاهرة في كربلاء مناهضة للحكومة (26/1/2020/ فرانس برس)

+ الخط -

في مقال نشره معهد السلام الأميركي (USIP) في17 مارس/ آذار الحالي، بعنوان "يواجه العراق تحدّيات كبيرة في مجال الحكم .. هل يمكن أن تساعد اللامركزية؟"، يرى كاتباه، جوشوا ليفكويتز ويوسف كاليان، أن "هناك حاجة إلى إصلاحات أكثر أهمية إذا كان المشرّعون العراقيون سيكونون أكثر عرضةً للمساءلة أمام مجتمعاتهم وخزائنهم المتضائلة". ويأتيان "على محاولات العراق الفاشلة لتطوير حوكمة شاملة حقًا". ولكن ما يقدّمه المعهد، من خلال هذه المقالة، ربما يذهب باتجاهٍ يتوافق مع رغبات الإدارة الأميركية الحالية، ليس بالصيغة التي طُرحت من خِلال مشروع بايدن لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، إبّان كان نائبا للرئيس الأسبق أوباما، بل عِبر بوابة اللامركزية وإعادة تقسيم الدوائر لتمثيلٍ أكبر في صنع القرار والمشاركة في تصميم الميزانيات المحلية. ويرى المقال أن "هذا الجهد يمكّن من توفير خدمة أفضل وتخصيص الموارد في مناطقهم، فضلاً عن المساهمة في الاستقرار على المدى الطويل. ويمكن أن يقلل هذا من الصراع قصير المدى بين المجتمعات المتخاصمة التي تتنافس حاليًا على الوصول إلى الموارد والوظائف العامة".

ما ذهب إليه، أو لنقل ما يروّجه معهد السلام، وهو معهد أسسه الكونغرس الأميركي عام 1984، لا يمكن أن يكون حلاً لقضايا العراق وأزماته: لماذا؟ لأن الأمر ببساطة لا يرتبط بمشكلات بين مكونات الشعب العراقي، بل لأن ظروف العراق المتوترة والقلقة مردّها أسباب كثيرة، ليس منها على وجه التحديد التنافس بين "المجتمعات المتخاصمة"، كما سماها المقال، بل لابتعاد الحكومة المركزية عن تحقيق الشفافية والنزاهة، ولتسيد الجماعات المسلحة الأدوار المهمة في عمليات صنع القرارات، ولتقسيم الوزارات والمناصب والوظائف الحكومية، العسكرية والأمنية والمدنية والدبلوماسية، بين الأحزاب السياسية التي تتعامل مع هذه المهام وكأنها غنائم توزّع على قادتها وأتباعها، وانتشار الفساد ليصبح هو الأساس، فيما تعد النزاهة استثناء، ناهيك عن حالات الاختفاء القسري والإعدامات وغياب العدالة، والتعامل على أساس طائفي وعرقي مع مكونات الشعب العراقي، أي تعامل الحكومة والجماعات المسلحة، وليس مكونات الشعب العراقي في ما بينها.

الجيل الجديد عانى من تسميم المناهج التعليمية، وتكريس الطائفية واقعا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، كما عانى من الإرهاب بكل راياته

ألغى النموذج السيئ للنظام السياسي في العراق كل معنى لحوكمة الدولة الرشيدة والشفافية، حتى بات الشعب العراقي لا يثق بما يمكن أن تعد به السلطات، لأن المشاهد التي رسخت في أذهان الجيل الجديد لا يمكن أن تجعل لشعارات ما بعد 2003 من سبيل للتصديق أو لبناء الآمال عليها، فالجيل الجديد عانى من تسميم المناهج التعليمية، وتكريس الطائفية واقعا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، كما عانى من الإرهاب بكل راياته، بدءاً من تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين، وانتهاءً بمليشيات ولائية تحمل رايات وصفات محمية بموجب "القانون" العراقي.

خلال حوار "المسار" الثاني بين الولايات المتحدة وأوروبا والعراق في برلين، في مارس/ آذار 2020 واستمر حتى ديسمبر/ كانون الأول 2020، والذي جمع خبراء من الولايات المتحدة وأوروبا والعراق في سلسلة من ورش العمل، لتحديد السياسات للمساعدة في معالجة أزمات العراق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، وضع الخبراء قائمةً بالتحدّيات التي تواجه العراق، منها احتجاجات واسعة النطاق مناهضة للحكومة، الأمن المضطرب ونشاط المليشيات المزعزع لاستقرار العراق، تدهور الأوضاع الإقتصادية، تفاقم الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية لوباء كوفيد 19، الفساد، وغيرها.

يلعب الكاظمي ذاته على وتر الشارع العراقي، الشارع الذي يعي الحقيقة تماماً، لكنه يفتقر لوسائل التغيير الممكنة

وخلال فترة امتدّت لأكثر من خمسة أشهر، قدّم الخبراء آراءهم في التدابير الواجب اتخاذها لتحسين كفاءة الخدمة المدنية، كحشد الشباب، واللامركزية في الخدمات الحكومية، تنفيذ قدرات الحوكمة الإلكترونية، والسيطرة على المليشيات من خلال الدمج العسكري تحت إرادة الدولة الشرعية. كما وضعوا خريطة طريق لتنفيذ هذه التدابير، بما يساعد العراق للخروج من وضعه الاقتصادي والسياسي الحالي، ويجعل منه دولةً واحدةً تتمتع بالاستقرار والازدهار النسبي.

ما يراد قوله في هذه المقالة إن هناك تفكيرا دوليا مع جهود حقيقية لإخراج العراق من الأوضاع الصعبة التي يعيشها، وربما وجدت دولٌ مهمة أن وجود رئيس للوزراء في العراق من خارج الكابينة الحزبية لأيٍّ من مكونات النظام السياسي القائم هناك يُعد فرصةً للبناء عليها، لتحقيق تغييرات إيجابية في هذا البلد ولو بقدر محدود. وتقع عملية الرهان الرئيسة على الانتخابات المقبلة، حيث سيعني تحقيق رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي الفوز أن تكسب هذه الانتخابات كثيرا من الشرعية والدعم الدوليين، له ولحكومته المقبلة.

العراق أمام مسار صعب جداً يتمثل بالفترة التي تسبق انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 والفترة التي تليها، لأن الكتل والأحزاب التي تهيمن على كل مفاصل الحكم في العراق منذ 18 عاماً تعلم علم اليقين ما يسعى الكاظمي إلى تحقيقه. وهي تعتقد أن هذا السعي سيكون مدعوماً أميركياً – أوروبياً. ولذلك تعد العدّة لكسب هذه الانتخابات، مستعينةً بما تملك من قدراتٍ مالية وعسكرية ومليشياوية، وبكوادر من تنظيماتها يغطّون معظم دوائر الدولة المدنية والعسكرية. ليس هذا سرّاً بالطبع، وهو أمرٌ مشروع لمن تمرّغ في بحبوحة الحكم، من دون رقيب أو حسيب طوال هذه السنين. لذلك، يلعب الكاظمي ذاته على وتر الشارع العراقي، الشارع الذي يعي الحقيقة تماماً، لكنه يفتقر لوسائل التغيير الممكنة.

ألغى النموذج السيئ للنظام السياسي في العراق كل معنى لحوكمة الدولة الرشيدة والشفافية

أكثر الأطراف إعلاناً لتأييده للانتخابات المقبلة هو رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر، حيث يراهن عليها بشكلٍ يفوق أي مشاركات سابقة لتياره فيها، وهو يعتبر نفسه الأكثر تمثيلاً لأصوات العراقيين شيعةً وسنة، لكن واقع الحال في الشارع العراقي يرى أن كتلة "سائرون" التي تأتمر بأمره، وفازت في انتخابات مايو/ أيار 2018 السابقة (54 مقعدًا من 329)، لم تقدّم شيئاً للشعب، ولم يكن لها موقفٌ واضحٌ مؤيد لانتفاضة تشرين عام 2019، كما يتهم أبناء الناصرية مقتدى الصدر بأنه وراء مقتل أبنائهم المتظاهرين في ساحة الحبوبي برصاص مليشيا مؤيدة للتيار الصدري خلال هذا العام. والآن أمام مصطفى الكاظمي مهمة مواجهة التحالفات والتكتلات التي ستدخل الانتخابات المقبلة بصيغ عديدة، يراقبها عن كثب، والكتل الرئيسة تمثل التيار الصدري، الفتح، النصر، دولة القانون، تيار الحكمة، مع التحالفات السنيّة التي قد تتوزّع بين منضو تحت رايات التنظيمات الشيعية أو التنظيمات المؤيدة للكاظمي، سواء الجديدة منها إضافة إلى الكردية.

ما ينتظر العراق قد يكون مفصلياً، لكنه خطير جداً، فاللعبة الانتخابية لا تعني العراقيين وحدهم؛ بل هناك صراع إقليمي وصراع دولي كبيران تجاه كسب النتيجة لصالح هذا الطرف أو ذاك، كما أن القوى السياسية (الشيعية) تؤكد على وجود اتفاق بينها وبين الكاظمي حين ترشيحه لتولي منصب رئيس مجلس الوزراء بعد استقالة عادل عبد المهدي، يقضي بعدم دخوله في الانتخابات المقبلة، وتراقب التغييرات التي يجريها في المناصب، كسباً لأصوات الشارع والمتظاهرين.

تُرى، هل يكون ترويج معهد "السلام" الأميركي موضوع تقسيم العراق، عِبر بوابة الدوائر المحلية (الأقاليم)، والذي قال عنه إنه سيمكن من توفير خدمة أفضل وتخصيص الموارد في مناطقهم، فضلاً عن المساهمة في الاستقرار على المدى الطويل هو أحد نتاجات الصراع على السلطة في العراق خلال الانتخابات المقبلة أو بعدها؟

F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن