العراق والعودة إلى المربع الأول
بعد ثلاث سنوات من التضحيات التي بذلها الشباب العراقي في محاولات استعادة وطنٍ مزّقته الصراعات الأهلية والتدخلات الخارجية (الإيرانية تحديدا)، والتي نتجت أساساً عن الغزو الأميركي عام 2003، عاد العراق إلى المربع الأول، بعد أن تمكّنت القوى والمليشيات القريبة من إيران من استعادة السلطة وتقاسم مواردها من خلال حكومةٍ تشكلت وفق تقاليد "اغتنام الدولة" وتحاصصها، السائدة منذ عام 2003.
في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2019، خرج الشباب العراقي في محافظات الوسط والجنوب (المحافظات الشيعية) يطالب، تحت شعار "نريد وطنا"، بإنهاء حكم المليشيات والقوى السياسية التي نهبت البلد ودمّرته على امتداد عقدين، وإقامة دولة لكل مواطنيها وخروج إيران من العراق. تمكّنت الاحتجاجات، بعد فشل السلطة الحاكمة في قمعها، رغم العنف الهائل الذي استخدمته، من إسقاط حكومة عادل عبد المهدي التي كانت فعليّا واجهة (facade) لحكم المليشيات بعد أن تم تكريس وضعها سلطةً موازية لسلطة الدولة من خلال قانون الحشد الشعبي الذي جرى تمريره في عهد حكومة حيدر العبادي. وسمح ضعف القبضة الإيرانية في العراق بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في مطار بغداد مطلع عام 2020، في ضربة أميركية، بتشكيل حكومة غير سياسية لا تسنُدها كتلة برلمانية، لأول مرة منذ عام 2004، ترأسّها رئيس المخابرات المعروف بعلاقاته القوية مع واشنطن، مصطفى الكاظمي، أوكل إليها مهمة تنظيم انتخابات جديدة، وهو ما حصل في أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
شكّلت نتائج الانتخابات انعطافة في الحياة السياسية العراقية، ذلك أنها أسفرت عن سقوط الأغلبية البرلمانية التي حصل عليها حلفاء إيران من قوى ومليشيات في انتخابات عام 2018، حتى أن تحالف الفتح الذي يضم المليشيات القريبة من إيران حصل على 17 مقعد، في حين كان يمثل الكتلة الثانية في برلمان 2018 بحصوله على 48 مقعد. أما التيار الصدري، الذي بدأ، منذ تخلص من ظل قاسم سليماني، بأخذ مسافة عن إيران، قبل أن يتحوّل إلى خصمها الرئيس، فقد حصل على أكبر عدد من مقاعد البرلمان (73) ليشكّل بذلك الكتلة البرلمانية الكبرى، والتي يحق لها بحسب الدستور تسمية رئيس الحكومة.
بدا أن هناك فرصة حقيقية، لأول مرة ربما منذ عام 2003، لاسترداد العراقيين وطنهم، فإيران لم تتمكّن أبدا من استعادة نفوذها في العراق نتيجة رفض الشارع لها وعجز القائد الجديد لفيلق القدس، إسماعيل قاآني، عن ملء الفراغ الذي خلّفه غياب سليماني. وقد ازداد موقفها ضعفاً بسبب أوضاعها الداخلية وانهيار فرص إحياء الاتفاق النووي مع إدارة بايدن. فوق ذلك، نجح مقتدى الصدر الذي سعى إلى تشكيل حكومة أغلبية سياسية بدلاً من حكومة محاصصات، في نسج تحالفات عابرة للطوائف مع الأكراد (البرزاني) والسنّة ممثلين بتحالف السيادة (تقدّم وعزم) في أجواء إقليمية ودولية داعمة للتغيير. لكن هذا لم يحصل، إذ تمكّن حلفاء إيران من قلب الطاولة واستعادة السلطة، كيف ولماذا؟
بدأت الأخطاء بمقاطعة قوى تشرين انتخابات 2021، وكانت فرصة مهمة للقوى الشبابية والمدنية لتغيير قواعد اللعبة، خصوصاً أن الانتخابات كانت الأكثر نزاهة منذ عام 2003. لكن المشكلة الرئيسية تمثلت في شعبوية الصدر وسوء تقديراته، فبعد أن فشل في تأمين النصاب لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية الذي يكلف بدوره الكتلة الكبرى بتسمية رئيس الحكومة، اندفع من دون تفكير نحو الطلب من نواب تياره تقديم استقالاتهم، ظنّاً منه أنه يضغط بذلك على خصومه ويدفعهم إلى التوسّل إليه للعودة خوفاً من نقل المعركة إلى الشارع. لم يحصل هذا، بل استغلّ الخصوم "الهدية" التي سقطت عليهم من السماء، وغنموا مقاعد النواب المستقلين، فصاروا الكتلة الكبرى في البرلمان، وفشلت استراتيجية الصدر في اللجوء إلى الشارع، بعد أن تبّينت خطورتها عقب وقوع قتلى وجرحى في صدامات أب الماضي. الخطأ الأخر الذي وقع فيه الصدر اعتقاده أن حلفاءه سيبقون على العهد، لكن تقلباته وانتهازيتهم دفعتهم إلى المقلب الآخر، بمجرّد أن لوّح لهم "الإطار التنسيقي" ببعض الغنائم. وهكذا.. بين سلبية التشرينيين، وشعبوية الصدريين، وانتهازية الحلفاء، ضاعت فرصة استعادة العراق والتضحيات التي صنعتها.