العراق... من ينهي الشرب من الكأس المرّة؟

27 مارس 2024
+ الخط -

كومة الفضائح التي تفجّرت في العراق، الأسبوع الماضي، وطاولت مرافق حيوية في الدولة حملت مؤشّراً خطيراً دالّا على خلل بنيوي اكتنف نشأة النظام السياسي الجديد الذي جاء به الأميركيون. وانعكس، طوال الأعوام العشرين التي مرّت، على البنيان الاجتماعي والتعليمي بمقدار مهول من الرثاثة والاهتراء في منظومة القيم والأخلاق السائدة، وجعل المواطن العراقي العادي يتساءل عمّا إذا كان هذا كله يحدُث في ظل حكم أحزاب تتشدّق بحمل رايات الإسلام وشعاراته، وعما إذا كانت تلك الأحزاب تمثل الإسلام حقا؟
ليس قليلا أن تلقي سلطات الدولة القبض على عميد إحدى الكليات الجامعية على خلفية استغلال طالبات وابتزازهن جنسياً مع أنه كان محسوباً على فصيل "إسلاموي"، ورعى قبل بضعة أسابيع ندوة لطلبة الجامعة عن "الجوانب المشرقة في حياة السيدة الزهراء"! وليس قليلا أن اكتشاف شبكة احتيال وغسيل أموال من ضباط كبار يتعاملون مع "فاشنستات" لابتزاز سياسيين وذوي مناصب عليا عن طريق الإيقاع بهم، وتصويرهم في أوضاع خادشة للحياء، ومن ثم إجبارهم على دفع أموال مقابل عدم فضحهم، وواحد من هؤلاء الضباط كان قد نشر كرّاسا تعليميا عنوانه "كيف تحصّن نفسك من الابتزاز الإلكتروني"!
وليس قليلاً أن يعلن نائب سابق ورئيس حزب سياسي أنه تلقّى، في وقت سابق، تهديدا من رئيس المحكمة الاتحادية العليا يطلب منه الكفّ عن الدخول في تحالفٍ مع تيار سياسي معين، وفي حال عدم الاستجابة للتهديد ستعمد المحكمة لمقاضاته عن تهمةٍ ما، وطرده من البرلمان! وأيضا ليس قليلا إعلان الشرطة السويدية القبض على وزير الدفاع العراقي السابق الحاصل على الجنسية السويدية على خلفية "احتيال واحتيال مشدّد"، وحصوله على مساعدات من دائرة الضمان الاجتماعي في السويد له ولأسرته، في وقتٍ كان يتقاضى فيه رواتب من الدولة العراقية!
أضف إلى ذلك ما تكشف، في الشهور الأخيرة، عن تواطؤ ممنهج بين قوى نافذة في لبنان، وقوى مثلها ذات حول وطول في العراق على عمليات "غسيل شهادات" دكتوراه وماجستير من ثلاث جامعات لبنانية لم تتوفر فيها المعايير العلمية المعروفة لمسؤولين وسياسيين وذوي مناصب عليا من العراقيين ولأبنائهم، مقابل المال. وقدّم بعض من منحوا تلك الشهادات شهادات مزوّرة لمراحل أدنى جرى تمريرها ومعادلتها، ثم الانضمام للدراسات العليا، ومن دون حضور للمقرّرات الدراسية.

تواطؤ ممنهج بين قوى نافذة في لبنان، وقوى مثلها ذات حول وطول في العراق على عمليات "غسيل شهادات" دكتوراه وماجستير من ثلاث جامعات لبنانية

وبعدما أجرت السلطات اللبنانية تحقيقا في ما حصل، وتبيّن أن عمليات "غسيل الشهادات" شملت أكثر من 1700 حالة انفضح الموضوع، وفاحت رائحة التزوير وشراء الشهادات، وبدلاً من أن تعمد بغداد لمعاقبة من شارك في هذه "الفضيحة" تحرّكت أطرافٌ سياسيةٌ للضغط لغلق الموضوع، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، إذ اضطرّ العراق لإيقاف معادلة الشهادات الصادرة من الجامعات اللبنانية الثلاث المعنية، بعدما كان قد تم الاعتراف بشهادات مسؤولين عراقيين وأبنائهم، ومن بين من حصل على الدكتوراه من الجامعة الإسلامية في بيروت بهذه الطريقة، وهي إحدى الجامعات الثلاث ذات العلاقة بالفضيحة، رئيس السلطة القضائية، ووزير التعليم العالي، فتأمل!
قمّة البؤس أن تتعرّض المرافق الثلاثة الأهم في أي دولة (التعليم والأمن والقضاء) إلى هذه الكمية المهولة من الأعطاب، ولا تستثير همّة القائمين على السلطة والقرار فيها، وقمّة البؤس لملمة هذه الفضائح والتظاهر بالحزم، وتشكيل لجانٍ للتحقيق تلد لجانا، وانتظار النتائج ثم الاسترخاء والعودة إلى المربّع الأول، وهذا ما حدث مع فضائح مماثلة زكمت رائحتها الأنوف ثم تراجع بحثها شيئاً فشيئاً، وطويت في مراهنة على ضعف الذاكرة الجمعية للعراقيين، وبعضها الآخر دين أبطالها، وسيقوا إلى القضاء، وصدرت بحقّهم أحكام بالسجن، ولم يلبثوا قليلا حتى ظهروا في غير ما عاصمة عربية أو غربية، وكأنه لم يكن هناك شيء.
وقمّة البؤس أيضا أنك لا تتوقع معالجاتٍ حقيقية لما هو مطروح من فضائح، وفظائع، ولا حلولا جذرية للمشكلات الماثلة، وكل ما يمكن أن نتوقّعه شرور جديدة، وفضائح تلد أخرى، كما لا تتوقّع أن يقف أحدٌ من الذين يحكمون البلد ليفعل كما فعل المسرحي الكبير فاتسلاف هافل، الذي انتفض بعدما شاهد ما يجري من حوله: "لقد وصل الأمر إلى قدر من الرثاثة والاهتراء لا يمكن معه الصمت، وعليّ أن أنهي الشرب من الكاس المرّة"!
لكن من يا ترى من زعمائنا القابضين على السلطة يفكّر في أن ينشقّ لينهي الشرب من الكأس المرّة؟

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"