العراق في مفترق طرق

10 اغسطس 2021
+ الخط -

تعهّد الرئيس الأميركي، جو بايدن، في ختام الجولة الرابعة للحوار الاستراتيجي العراقي - الأميركي، بسحب قوات بلاده القتالية من الأراضي العراقية نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وهو ما اعتبرته أوساط المليشيات العراقية الموالية لإيران نصراً وفتحاً كبيراً جاء نتيجة جهودها في استهداف هذه القوات بضرباتٍ صاروخية، ومن خلال الطائرات المسيرة والعبوات الناسفة، وغيرها من الوسائل التي اعتمدتها هذه المليشيات وسائل ضغط على القواعد والمصالح الأميركية لإجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق، تنفيذاً بالدرجة الأساس لطلب المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، ثمنا مركزيا لاغتيال القائد الإيراني البارز، قاسم سليماني، مطلع عام 2020، بقرار مباشر من الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.
في المقابل، يرى باحثون في الشأن الأميركي وسياسات واشنطن تجاه العراق أن نشوة المليشيات، وبهجتها بقرار البيت الأبيض سحب القوات الأميركية من العراق، ليستا في محلهما، لأنهم يرون في هذا القرار الأميركي مجرد مناورة لا تعني بأي حال انسحاب أميركا من هذا البلد، ولعدة أسباب، منها أن الاتفاق الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، في جولته أخيرا، نص على تعهد العراق بحماية بعثة التحالف الدولي التي تتزّعمها واشنطن، كما أبقى على الطواقم الخاصة بالتدريب والمشورة والتنسيق المعلوماتي الاستخباري، إضافة إلى الوحدات الخاصة بحماية المصالح الأميركية، ومنها، على سبيل المثال، سفارة واشنطن في بغداد وقنصليتها في أربيل، وكذلك الإبقاء على أسراب الطائرات المختلفة في قواعد بعينها في العراق.

واقع الحال يقود إلى استنتاجاتٍ مهمة في سعي واشنطن إلى كسب عقول الأجيال المقبلة من العراقيين وقلوبهم

بدأت قواعد الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة في عام 2008 تحت مسمّى اتفاقية الإطار الاستراتيجي، وهي معنية، بالدرجة الأساس، برسم علاقة الصداقة والتعاون بين البلدين. لذلك، نظرة واشنطن إلى العراق منذ 2008 هي نظرة حليف استراتيجي، وهذا يعني أن العلاقة بين البلدين ستستمر إلى فترات غير محدّدة، على الأقل بالنسبة للجانب العراقي منها. وهذا يرتبط بطبيعة النظام السياسي الضعيف، والذي كان نتاج فترة تحلل الدولة العراقية بقرارات أميركية مُعدة سلفاً قبيل احتلال هذا البلد.
إذن، ومن منطلق النظرة الأميركية إلى علاقتها بالعراق، ومن واقع تردّي الحالة العراقية عاما بعد آخر، فإن واقع الحال يقود إلى استنتاجاتٍ مهمة في سعي واشنطن إلى كسب عقول الأجيال المقبلة من العراقيين وقلوبهم، أي "أمركة" الأجيال التي ستكون في مواقع المسؤولية خلال العقد المقبل من خلال عدة ممارسات وأسس تضعها وتطوّرها يوماً بعد آخر، ففي حين ينشغل قادة بعض المليشيات الموالية لإيران بقصف قواعد محصّنة من دون أن تصيب أي أميركي، تبني واشنطن وتفتتح عدة جامعات أميركية في العاصمة بغداد ومحافظات السليمانية ودهوك، وسيأتي الدور على البصرة وأربيل والموصل وغيرها، كما ستنال الشركات الأميركية الحصص الأهم في الاستثمارات داخل العراق، بما يعني تشغيل ومعايشة أوساط عراقية مختلفة بشكل قريب جداً يجمع بين التخطيط الاجتماعي للتأثير والمكاسب المادية للعاملين في هذه الاستثمارات مصادر رزق رئيسة ومحترمة لهم.

لن تترك إيران العراق ليتعافى من جديد، وإن تعافى فسيكون دولةً ملحقةً بالنظام السياسي الإيراني على مستوى الإقليم بشكل كامل

يمثل الوجه الآخر في العراق القوة الأخرى التي تحاول السيطرة والتمكّن المطلق على مجريات الأمور في هذا البلد، وهي إيران بالطبع، فهذا البلد يمسك بمجموعة عوامل تجعله أيضاً لاعبا رئيسا في الناتج النهائي لسلوك شرائح واسعة من العراقيين وعقيدتها. نعم، فإيران التي اختارت الجانب الطائفي مدخلا حيويا لكسب ود أبناء الطائفة الشيعية في العراق وتغذية عقول النشء الجديد بأفكار وممارسات رجعية ومتخلفة عبر التلاعب والتدخل في المناهج الدراسية لكل المراحل، وخصوصا مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، وإيران التي مولت وسلحت ومكنت مليشيات موالية ومؤمنة بولاية الفقيه، لتكون حاضرة على رقاب من يحاول أن يقف بوجه تدخلاتها في العراق، وإيران أيضاً التي استحوذت على هيمنة في المصدر التشريعي العراقي (مجلس النواب) لمنع إقرار أي قانون يحدّ من تدخلاتها، لن تترك العراق ليتعافى من جديد، وإن تعافى فسيكون دولةً ملحقةً بالنظام السياسي الإيراني ليس على مستوى العلاقات الثنائية فقط، بل على مستوى الإقليم بشكل كامل.
العراق الذي وقع تحت ضغوط أميركية وإيرانية يجد نفسه اليوم أمام مفترق طرق خطير وحسّاس، فالولايات المتحدة التي يصفها عراقيون كثيرون بأنها قدّمت العراق على طبقٍ من ذهبٍ لإيران باتوا الآن يراجعون أنفسهم في هذا التوصيف، لأن أميركا استثمرت إيران في العراق، لتكون هي الأنجع بالنسبة للعراقيين. وأميركا التي خسرت آلافا من جنودها وآلاف ملايين الدولارات ليست دولة فتية أو يحكمها حاكم متهوّر ذو سلطات مُطلقة. نعم كان قرارها غزو العراق باطلاً ومُداناً أميركياً ودولياً، إلا أن استثمار خطأ القرار جاء سريعاً ضمن اتفاقية الحوار الاستراتيجي عام 2008، لتتحول سهام الملاحظة والملاحقة والتخبط إلى سياسات طهران في هذا البلد، وما لبثت الأحوال في العراق أن تحولت خلال أقل من عشر سنوات إلى خسارة طهران جمهورها الذي تعوّل عليه عقائدياً وطائفياً، فقد خرجت جموع شيعة العراق، وفي محافظات الجنوب العراقي تحديداً، لتطالب بخروج الإيرانيين من بلادهم وما زالوا على ذلك، وإن كلفهم كثيرا من الأرواح والدم.

إيران لن تسمح بأمركة العقل العراقي، فذاك يعني إسقاط أهم أدواتها في التغلغل داخل الأنسجة الاجتماعية، ألا وهو "العقل"

يميل رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، إلى الولايات المتحدة خيارا يحفظ أمن العراق ووحدة شعبه، عبر بناء علاقات وطيدة وشراكة راسخة على أسس احترام السيادة العراقية وحفظ مصالح العراق، ودعوته إلى توسعة أفق الاستثمار أمام الشركات الأميركية في بلاده، سيكون أمام فترة عصيبة حتى موعد الانتخابات المبكرة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، لأن الجانب الموالي لإيران، أو دعنا نقول إن إيران لن تسمح بأمركة العقل العراقي، فذاك يعني إسقاط أهم أدواتها في التغلغل داخل الأنسجة الاجتماعية، ألا وهو "العقل" في النظر إلى ماهية الأساليب التي تعتمدها لتعمية أبناء شعب العراق.
بين الأمركة والأيرنة فارق واسع، فالأولى تعتمد الأساليب الأميركية الإمبريالية المعروفة، الرفاهية، التعليم، الإبهار، "الديمقراطية"، وغيرها. والثاني يعتمد سياسة التجهيل والتعمية واستغلال عاطفة بسطاء الناس، خصوصا في ما يتعلق بالقضايا الدينية مثار الخلاف بين أبناء الأمة، لتمرير مشاريعهم وخططهم في إجراء التغييرات القسرية للمجتمع. ويبقى السؤال دائماً: هل هذان الخياران، الأمركة والأيرنة، هما فقط ما يمتلكه شعب العراق؟ أم هناك إرادة أقوى يمتلكها شعب العراق، لفرض الأمر الواقع الذي يريده هو، وليس ما يريده محتلوه وقتلة أبنائه؟

F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن