العراق بين سياسة البؤس وبؤس السياسة
ينقل الكاتب الأرجنتيني، ألبرتو مانغويل، عن صديقه الروائي، خورخي لويس بورخيس، أنه كثيرا ما كان يردّد أن "السياسة أكثر الفعاليات البشرية بؤسا"، ولعله بهذه اللمحة عكس تجارب القارّة اللاتينية التي مثّلت في حينه "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة التي استأثرت، في فترات تاريخية معلومة، بكل ما في هذه القارّة من أرض وثروة وبشر، وكانت تنصب لحكم بلدانها من تشاء لضمان مصالحها ونفوذها.
أما نحن فلا نجد اليوم مثالا يدلّل على صواب ما قاله بورخيس أقرب من تجربة العراق التي مثّلت قمّة البؤس في السياسة التي كنا نطمح أن تكون مصداقا لما قرأناه عن "فن إدارة شؤون الدولة". ووقائع عشرين سنة معجونة بالمرارة والمعاناة عرّفتنا بكثير مما كنا نجهل أو نتجاهل.
بعضُ هذا الكثير أن الولايات المتحدة نقلت، عند غزوها البلاد، بعض أصدقائها (اقرأ: بعض عملائها!) من العراقيين ممن اعتادوا العيش في الأزقّة الخلفية لدول الغرب والجوار، وصنعت منهم طبقة سياسية، وسلّمتهم مفاتيح بغداد، وفوّضتهم إدارة شؤون الدولة على النحو الذي تريده. ولم يكن أغلب هؤلاء يفقهون شيئا لا في الإدارة، ولا في السياسة، ولا في شؤون المجتمع، كما لم تكن لديهم أية خبرة أو تجربة تؤهلهم لقيادة بلد مثل العراق.
ولذلك، وعلى مدى أزيد من عشرين سنة، لم يتمكّنوا من تقديم منجز واحد يُحسب لهم. أكثر من ذلك أن المنجزات التي حقّقها العراقيون منذ استقلالهم الأول قبل مائة عام، وحتى الاحتلال، اختفت تدريجيا، ليس اعتباطا ولا مصادفة، وإنما جرى ذلك عن سبق إصرار وترصّد، بلغة رجال القانون. وقد خسر العراقيون من الثروة والأرض والبشر ما لم يخسره شعبٌ من الشعوب في العصر الحديث. وما كان مرسوما بعناية حدث بالفعل، إذ تحوّل العراق إلى "دولة فاشلة" فقدت السيطرة على أراضيها، وشرعنت استخدام القوّة ضد مواطنيها. وفشلت حكوماتها المتتالية في اتخاذ قراراتٍ ذات فعلٍ مؤثّر على أيّما صعيد، كما لم تتمكّن من توفير الخدمات المطلوبة منها، وارتفعت فيها معدّلات الفساد والجريمة، ما أوجد بيئة صالحة لنمو المليشيات والمافيات التي تمكّنت من النفاذ إلى قلب مؤسّسات الدولة، لتأخذ حصّة وازنة في تشكيلة الحكومات، شأنها شان أية أحزاب سياسية مهتمّة بالوصول إلى السلطة لتنفيذ برامج معيّنة. وهذا ما نراه شاخصا أمامنا في "توليفة" حكومة محمد شيّاع السوداني الحالية التي تضمّ وزراء ممثلين لمليشيات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، ومموّلة منه، وهذا يعكس أحد أوجه الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي.
المنجزات التي حقّقها العراقيون منذ استقلالهم الأول قبل مائة عام، وحتى الاحتلال، اختفت تدريجيا، ليس اعتباطا ولا مصادفة، وإنما جرى ذلك عن سبق إصرار وترصّد
والجديد اليوم هو ما طفا على السطح، معطوفا على وجود عشرة آلاف من العساكر الأميركيين في البلاد، مقيمين في قواعد ثابتة لغايات حماية الأمن القومي الأميركي، وتطمين مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ومن مجريات الأحداث، نفهم أن الأميركيين يصرّون على إبقاء هؤلاء العساكر في العراق، فيما تحاول حكومة بغداد التخفيف من وقع ذلك على العراقيين، بالزعم أن ليس لهؤلاء مهمّات قتالية، وواجبهم تقديم المشورة الفنية والتدريب فحسب، وإن عددهم لا يتجاوز بضع مئات، فيما لا يتردّد الأميركيون في بياناتهم عن توصيف المسألة كما هي على أرض الواقع.
واللافت في تداعيات هذه القصة جملة مفارقاتٍ أثارت الاستغراب والسخرية معا، فعندما صعّدت الفصائل من هجماتها على القواعد الاميركية في العراق، على وقع تداعيات حرب غزّة، ظلّت بغداد تنفي علمها بمن وراء هذه الهجمات، وتعد بمتابعة الأمر ومعاقبة الفاعلين. وعندما عمدت واشنطن إلى الانتقام، واغتالت أحد قياديي الفصائل وأصابت آخرين، قالت بغداد إنها ترفض هذا الاعتداء، لكن الأخيرة جدّدت تحذيراتها بأنها ستواصل الردّ على الهجمات، إذا ما تكرّرت، وعبّرت عن تقديرها الدعم الذي قدّمته "جهاتٌ أمنية عراقية". وقد فضحت هذه الإشارة تعاونا، بدرجةٍ ما، بين الأميركيين وجهات أمنية عراقية، ما زاد من حراجة موقف السوداني الذي يبدو أن واشنطن كانت تعوّل عليه كثيرا في التجاوب معها، لكنه رضخ أخيرا لمطلب الفصائل الولائية لتفعيل قرار برلماني سابق بالعمل على إخراج القوات الأميركية. وأعلن عن مواصلة عمل لجنة للحوار مع الجانب الأميركي كانت شكّلتها حكومة عادل عبد المهدي. ومرّة أخرى، تجاهلت واشنطن ذلك، واكتفت بإطلاق تهديداتها بردود فعل أقوى، إذا ما استمرّت الهجمات، وحيث إن ايران متمسّكة بـ "الصبر الاستراتيجي" في مواجهة أميركا، فان الفصائل واصلت الهجمات نيابة عنها، وضربة من هنا، وضربة من هناك. وحكّام بغداد خائفون إلى درجة أنهم لم يسمّوا المسمّيات بأسمائها، إذ ذكروا تسمية "التحالف الدولي" مكان "الولايات المتحدة"، وظلّوا متأرجحين، لا هم قادرون على لجم الفصائل التي أخذت قرار "السلم والحرب" نيابة عن الدولة، ولا هم راغبون بمواجهة أميركا وطرد عساكرها من البلاد، واتخاذ قرار الحسم المطلوب!
ذلك كله هو صورة من صور "سياسة البؤس" و"بؤس السياسة".