العراق بين الدولة والمذهب
يتصاعد الجدلُ في العراق، ويكبر يوماً بعد آخر، بسبب ما يُعرف بتعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي تسعى إليه كتلٌ برلمانيةٌ شيعيةٌ. ليس كلّها بالتأكيد، فالتعديل المُقترَح يلقى رفضاً من شخصيات برلمانية سنيّة أيضاً. ولتبسيط الأمرِ للقارئ أكثر، تطرح بعض القوى المُمثِّلة للإسلام السياسي الشيعي في البرلمان العراقي تعديلاً على القانون الخاص بالأحوال الشخصية في العراق، الذي أُقرَّ عام 1959، ويتضمّن القضايا الخاصّة بالزواج والطلاق والمواريث وحقّ الحضانة والنفقة... وما إلى ذلك.
بحسب مُشرِّعين وقانونيين، يعدّ القانون العراقي للأحوال الشخصية (1959) من بين أكثر القوانين العربية والإسلامية عصريةً، لما تضمّنه من سلطة للدولة بعدّها المسؤولة عن المواطنين في مختلف مذاهبهم وتوجّهاتهم العَقدية، وأيضاً لأنّه من القوانين التي نجحت في المزواجة بين الفقه وسلطة الدولة، فهو قانونٌ شرَّعته نُخْبَةٌ من المشرّعين العراقيين، ممن وضعوا سلطة الدولة قبل سلطة رجل الدين والفقيه، فسلطة الدولة يجب أن تسود، ويوازن بطريقة عقلانية بين التشريع الإسلامي وفهم الفقه، المُتغيّر تبعاً للمذاهب، والدولة الحديثة التي يُراد لها أن تكون لكلّ المواطنين، بما يضمن حقوق الجميع من دون انتقاص منها، ومن دون أن يكون هناك تعدٍّ على الشريعة الإسلامية بوصفها دين الدولة الرسمي، بل هو قانون مُستلٌّ من التشريعات الإسلامية، وقائمٌ عليها، وحافظٌ للتباينات الفقهية بين المذاهب المُختلفة.
لا جدل في سطوة رجال الدين الشيعة، فهي المُحرِّك لديناميكية النظام عقب الغزو الأميركي
يُنتج التعديل الجديد على القانون ما يُشبه السلطةَ الموازيةَ لقضاء الدولة وقوانينها، فهو يفتح المجال واسعاً على تعدّيات كبيرة على هذه السلطة، تبدأ من قبول العقود التي تجري خارج منظومة الدولة، إلى حقّ زواج القاصرات، إلى التلاعب بالميراث الخاص وبالحضانة، وغيرهما تعديلاتٌ كثيرة رأت فيها منظمات قانونية وتشريعية وحقوقية وحتّى برلمانية في العراق، ليس تعديّاً على سلطة الدولة فقط، وإنّما أيضاً امتهاناً فاضحاً لكرامة المرأة، وجعلها سلعةً للتمتع، وهو ما دفع تحالفاً من 188 نائباً في البرلمان العراقي إلى إعلان اعتراضهم على هذا القانون، ناهيك بالتأكيد عن المنظّمات الحقوقية والنسائية العراقية، التي لم تجد بُدّاً من التظاهر رفضاً لهذا التعديل المُقترَح.
والأمر على ما يبدو أبعد من أن يكون مُجرَّد تعديلٍ قانوني على قانونٍ نافذٍ، وإنّما هو بمثابة رصاصةٍ أخرى تُطلق على جسد الدولة في العراق، وهو جزءٌ من مشروع أكبر من مُجرَّد التعديل على القانون، بل محاولةٌ لإيجاد سلطةٍ أخرى خارجَ نطاق الدولة، سلطةٍ بيدها صولجان التشريع والفقه، بيدها سطوة رجال الدين الشيعة، سلطةٍ تسعى إلى تجريد الدولة من أدواتها، تماماً كما جُرِّدت من الأداة الأهم؛ القوّة التي يجب أن تكون مُحتكَرةً بيد الدولة، بعد تأسيس "الحشد الشعبي"، الذي صار اليوم بعُدَّةٍ وعددٍ وقرارٍ سياسيٍّ تفوق ما لدى الدولة، بل وصل الأمر إلى أنّ قرار السلم والحرب لم يعد أصلاً بيد الدولة العراقية، وصارت تلك المليشيات قادرةً على أن تُدخل العراق في أَتون حرب أو تركن به نحو سلام هي تريده، متى ما احتاجت إلى هذا الخيار أو ذاك.
تمثّل سطوة رجال الدين في العراق، وهنا نتحدّث عن رجال الدين الشيعة حصراً، سطوةً لا جدل فيها، فهي بمثابة المُحرِّك الخلفي لديناميكية النظام الذي تأسَّس في العراق عقب الغزو الأميركي (2003)، تجنح هذه السطوة بالبلاد نحو تأسيسٍ لا يشبه حتّى ولاية الفقيه في إيران، وهي التي تُقدّم نفسها متكاملةً مع المشروع الإيراني بطريقة ما. أكثر من ذلك، هذه السلطة الدينية التي تتحكَّم في تفاصيل الواقع العراقي كلّها ترى في نفسها الأقدر على أن تُحرّك مُجريات الأمور في ظلّ هيمنة أتباعها على مؤسّسات الدولة العراقية كلّها. بالمناسبة، باتت القوى العراقية الأخرى، السنّية والكردية والليبرالية، بلا أنياب في ظلّ البرلمان الذي تشكَّل عقب انتخابات 2021، الذي يُمثّل أحدَ أسوأ الدورات في عراق ما بعد 2003، بسبب ضعف المشاركة، الكبير أصلاً في تلك الانتخابات، وما تبعه من انسحاب للكتلة الفائزة فيها؛ كتلة التيّار الصدري.
التعديل على قانون الأحوال الشخصية العراقي ينتج ما يُشبه سلطةً موازيةً لقضاء الدولة
من هنا يأتي خطر مُقترَح تعديل قانون الأحوال الشخصية في العراق، فالأمر لن يتوقَّف عند هذا الحدّ، فالعراق في صراع بين الدولة والمذهب، فمثلما سعى الدستور العراقي الذي أُقرَّ عام 2005 إلى ترسيخ سلطة الدولة، رغم ما فيه من مثالب، هناك اليوم محاولاتٌ لسطوة المذهب على هذه الدولة، ولعلّ قبل هذا التعديل المُقترَح تم إقرار عطلة "عيد الغدير"، عبر تشريعٍ برلماني، رغم كلّ ما في هذه المناسبة من خلافاتٍ جوهرية بين المسلمين، وما تبع ذلك من جدل طائفي تجدَّد واستجدّ في كلّ عام بسبب هذه العطلة.
لا يمكن لك أن تدير دولةً بعقلية رجل الدين لا يرى في الآخر إلا ندّاً له، ومنافساً، وربّما عدوّاً أيضاً. لا يمكن لك أن تُحدِث نظاماً أبوياً يرعى مكوّنات الشعب كلّها، في اختلاف مذاهبهم وأديانهم وعرقياتهم، وأنت لا ترى فيهم إلا مجتمعاتٍ يجب أن تَدين بدينك ومذهبك وفقهك أنت. ينحدر العراق بسرعة كبيرة نحو تجذّر سلطة المذهب على حساب سلطة الدولة، وسلطة الفقه الطائفي على حساب سلطة الدولة الأبوية التي لا تُفرّق بين مواطنيها، ساعتها لن يكون ممكناً أن نرى دولةً متماسكةً، وساعتها قد لا يكون خيار الفيدرالية، الذي ترفضه مُكوّنات عراقية كثيرة، قادراً على ردم الهوّة التي أحدثها دعاة تطييف الدولة لحساب مذهب معيّن .