العراق... اختلاف السرديّة وتشظّي الهوية
شكّلت السرديات المشتركة في حدّها الأدنى أحد أهم ملامح تشكّل الهويات الوطنية التي انبثقت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ثم في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتشكل الدولة الوطنية بمفهومها الموجود حاليا، لأنها ببساطة تمثل عامل قوّة لطبيعة الانتماء ونوع الهوية. ولا يخفى على أحد أن غالبية المكوّنات الوطنية التي تشكلت في العالم العربي عقب الحرب العالمية الأولى قامت على فكرة التفاهم على سردية واحدة لقراءة مضامين ما مضى من تاريخ، وأيضا وضع أهداف ما يمكن أن يأتي، ناهيك عن الثقافة والتراث والمشتركات اللغوية والدينية الأخرى.
في العراق اليوم، لا يمكن لك أن تجمَع عراقيين على سردية واحدة لقراءة الأحداث الماضية، لأسباب عدّة، الأمر الذي أثّر، بشكل كبير، على الهوية الوطنية، وهو شرخٌ كبيرٌ جدا أحدثه الغزو الأميركي للعراق عام 2003، إذ وجد العراقيون الذين عاشوا تحت سلطة الحزب الواحد والفكر الواحد والسردية الواحدة، أمام سرديّات عديدة للتاريخ، البعيد منه والقريب، سرديّات بالتأكيد لم تكن غائبة عن العراقيين، ولكنها أيضاً لم تكن معروفة بظاهرها المؤذي الذي ظهرت عليه عقب الغزو، وأكبر خطورةٍ شكّلتها تلك السرديات المتقاطعة للتاريخ، أنها تحوّلت إلى أداة بيد قوى وأحزاب سياسية جاءت عقب الغزو الأميركي، وعلى ظهر دبّابته لتستغلها لخدمة أهدافها السياسية والحزبية ومصالحها الضيقة.
لا يمكن القول إن هناك شعبا ينتمي إلى التاريخ نفسه بكل ما فيه، بل الأصحّ أن الدولة الوطنية التي تشكّلت في أعقاب الحربين العالميتين سعت إلى أن تتوافق على سردية واحدة، ودعمت ذلك بكثير من مفاهيم تعزيز الهوية الوطنية، وهو ما غاب عن العراق لأسباب كثيرة، لعل منها كثرة الانقلابات وتغير الأنظمة منذ أول انقلاب حصل على العهد الملكي عام 1958 وحتى الغزو الأميركي 2003 وما رافق كل حدث وانقلاب من محاولة الحكّام الجدد ومؤسّسي النظام السياسي تقديم سردية مختلفة.
نجحت الهويات الفرعية في عراق ما بعد 2003 في ترسيخ نفسها
شعر العراقيون بوطأة غياب الهوية، فعلى الرغم من أن الهويات القومية والطائفية لم تكن غائبة قبل 2003، إلا أنها كانت محكومة بقوة الدولة وقوانينها الصارمة التي تمنع أن تطغى هوية عرقية أو طائفية أو دينية على الهوية الوطنية، بمعنى كانت الدولة ترسّخ الهوية الوطنية بالقوة إن لزم الأمر، فما إن جاء الاحتلال الأميركي حتى انفجرت الهويات الفرعية في العراق بطريقةٍ لم يسبق لها مثيل، انفجار دفع ثمنه العراقيون قبل العراق، الدولة.
نجحت الهويات الفرعية في عراق ما بعد 2003 في ترسيخ نفسها، لم يعد الانتماء إلى الوطن قابلا للحياة في ظل سطوة العصابات والمليشيات والقتل وغياب الدولة وقوانينها، تحوّل الوطن فجأة إلى غابة، لم يكن هناك من خيار سوى الاحتماء بالطائفة أو العشيرة أو القومية أو حتى الدين، خصوصاً أن الخطاب الذي كان ينزل من قمة الهرم إلى أسفله، وأقصد خطاب الدولة، كان يعزّز ذلك، فمجلس للحكم على أساس طائفي وعرقي وحكومة توزّع مناصبها على الأساس ذاته وإعلام وأحزاب ومليشيات، وكلها تعزّز الهويات الفرعية وتقدّم سردية للتاريخ والحاضر والمستقبل تنبع من طبيعتها وطبيعة مصالحها.
تمثل أول انقلاب على هذا الواقع في الانتخابات التشريعية عام 2010، يوم أن قرّر عراقيون كثيرون أن ينتخبوا بناء على الهوية الوطنية، فكان أن اختاروا القائمة الوطنية العراقية بزعامة إياد علاوي، غير أن ما جرى من التفافٍ حول تلك الانتخابات أصاب العراقيين بنكسة جديدة، دفعتهم للتعبير عنها في تأثير (وامتداد) الربيع العربي الذي وصل إلى بغداد عام 2011، وأيضا كان للقمع الذي قوبلت به انتكاسة كبيرة ستصيب العراقيين بمقتل، وتدفعهم، مرّة أخرى، إلى التقوقع حول هوياتهم الفرعية، فكانت انتفاضة المدن الست في 2013 خير تمثيل لهذا النكوص الهوياتي.
على النظام السياسي في العراق أن يكون قادرا على استيعاب الجميع، وأن يبقى هو الهوية
جاءت ثورة تشرين 2019 الشبابية العراقية لتعبّر أصدق تعبير عن الإحساس العالي لدى شريحة واسعة من العراقيين بأهمية الهوية الوطنية، وما كان ترديد عبارة "نريد وطن" إلا تعبيراً دقيقاً عن تلك الحاجة التي بدأت تشعر بها أجيال من العراقيين ربما لم تعش حالة التشظّي الهوياتي بشكل كبير عقب 2003، وكان يمكن لهذه الثورة لو قيّض لها أن تنجح، أن تكون أول ثورة ترسّخ الهوية الوطنية من قاعدة الهرم إلى قمته، ولكن!
قبل أيام، ثارت ثائرة مواقع التواصل الاجتماعي بسبب وضع طالبة عراقية صورة صدّام حسين على قبّعة التخرج، حتى عوقبت بالفصل من كليتها رغم أنها على باب التخرّج، في حين راح عراقيون يستعرضون صور عشرات من الطلاب الذي يرفعون صورة قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني الذي قتل بغارة أميركية في بغداد مطلع عام 2020، مع تساؤلات عريضة، لماذا يُسمح برفع صورة سليماني الذي يراه طيف واسع من العراقيين إرهابياً وقاتلاً، بينما لا يُسمح برفع صورة صدّام حسين، على الأقل إنه عراقي وكان رئيسا للجمهورية؟
ليس مطلوباً من النظام السياسي في العراق أن يُجمع الشعب على سرديةٍ واحدة، ولكن أن يردم الهوّة بين العراقيين في نظرتهم إلى الوقائع التاريخية المعاصرة على الأقل، وأن ينزع أكثر صوب شيوع مفهوم الوطن الذي يغفر ويسامح، ويكون قادرا على استيعاب الجميع، وأن يبقى هو الهوية، بغضّ النظر عن السرديات الفئوية للأحداث. بخلاف ذلك، ستبقى سرديات العراقيين المختلفة مثار تشظٍّ متواصل للهوية الوطنية؛ تشظٍّ يدفع ثمنه الوطن والمواطن على حد سواء.