عندما تنتصر محكمة العدل العليا الأميركية لليمين العنصري
شكّل قرار المحكمة العليا الأميركية إلغاء مبدأ "التمييز الإيجابي" في نظام القبول في جامعات عريقة عدة، كهارفرد وكاليفورنيا (بيركلي)، ضربة قوية للحقوق المدنية، وإنجازاً لا يُستهان به، ليس لليمين الأميركي بالذات، وإنما أيضاً للحركات العنصرية المتصاعدة في العالم.
هو انتصار أيضاً لـ"الترامبية"، فإدانة الرئيس السابق، دونالد ترامب، بالتآمر والفساد لا تعني أفول التيار الذي يمثله، بل إنه انتصر على رئيس البيت الأبيض الحالي، ولن تنتهي انتصاراته عند إلغاء مبدأ "التمييز الإيجابي" لإتاحة الدراسة الجامعية للسود بعد تاريخٍ من العبودية والتمييز العنصري اللذين منعا أبناءهم من الحصول على تعليمٍ عام يسمح لهم بالتنافس لتأمين مقاعد جامعية. ويشكّل قرار المحكمة، في جزء منه، انتصاراً لعقلية عنصرية لا تقبل الآخر، وتلومه على فشل النظام الرأسمالي في تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
ما حدث لا يخصّ أميركا وحدها، فالتحشيد العنصري ضد المهاجرين والمسلمين، والأقليات أياً كانت، وبخاصة في دول أوروبا، يستمدّ قوته من لوم "الآخر" على تضاؤل فرص التعليم والعمل، بدلاً من معالجة جذور غياب العدالة الاجتماعية، فقرار المحكمة الأميركية، في مثل هذا السياق، هو مشاركة في التحشيد العنصري، والتأكيد على أن "غير البيض" هم سبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في أميركا وأوروبا.
وصف المفكر الأميركي من أصل أفريقي، كورنيل وست، القرار بأنه "حربٌ على السود في أميركا"، خصوصاً أنه يترافق مع توسّع الممارسات العنصرية والعنيفة ضد السود. وتسابق المسؤولون الأميركيون، بدءاً من الرئيس جو بايدن، ومروراً بالرئيس السابق باراك أوباما، الذي وصف تاريخ اتخاذ القرار "باليوم الحزين"، إلى إدانة خطوة محكمة العدل العليا الأميركية. ولكن المشهد لا يخلو من نفاق وكذب وعدم تحمّل مسؤولية النظام القائم في أميركا والعالم مظلومية الفقر والسحق الطبقي، فمفكّر مثل كورنيل وست يعبر عن صرخة ألم، لكن ندب السياسيين، وحتى كثيرين من المثقفين الليبراليين الأميركيين، فيه زيفٌ كثير، فمن دافع عن تقويض مسؤولية الدولة عن الرعاية الصحية والتعليم في أميركا، ودافع، بل وبشّر بالنيوليبرالية، شارك بالتمهيد لما يجري في أميركا. فمبدأ التمييز الإيجابي كان وبحق إنجازاً لحركة الحقوق المدنية، وكان حلماً لزعيمها مارتن لوثر كينغ، صاحب مقولة "لدي حلم"، لكنه، أي مبدأ "التمييز الإيجابي"، كان يفترض أن يكون خطوة مرحلية تمهيداً لتحقيق المساواة والعدالة، وليس ترقيعاً لنظامٍ لا يضمن العدالة الاجتماعية.
أحد أسباب نجاح ترامب في الانتخابات أن فئات واسعة من العمّال، وأكثرها من البيض، وجدوا في خطابه الشعبوي اليميني خلاصاً لمشكلاتهم، بأن المنافس هو "الغرباء"
لكن النيوليبرالية الاقتصادية، التي بدأت تنمو بعد سنوات القضاء على حلول "الرفاه الاجتماعي" في سنوات الرئيس الأميركي الراحل، رونالد ريغان، وتغليب مضاعفة الأرباح على تحسين الوضع المعيشي، والفشل في تجذير مناهَضة حقيقية للعنصرية في المؤسّسة الأميركية الرسمية، جعلت من مبدأ التمييز حالة دائمة من تضميد جرحٍ نازفٍ بلاصقٍ لا يوقف الدم، بل الأخطر أن تداعيات النيوليبرالية على قطاعات العمّال الأميركيين، من البيض بخاصة، نتيجة استشراس النيوليبرالية، جعلت هؤلاء يروْن السود منافسين، وحتى سارقين فرص أبنائهم في التعليم وأعداء لهم. وليس غريباً أن تنبأت "نيويورك تايمز" بأن أغلبية من الأميركيين تؤيد شطب "التمييز الإيجابي"، فهناك تشويهٌ للوعي نراه في أميركا وكل مكان يجعل الفقير يحارب الفقير، و"ابن البلد" ينقلب على اللاجئ في المنافسة على لقمة العيش. لذلك، شكّل مبدأ التمييز الإيجابي لصالح السود وهماً عند أميركيين كثيرين، بيض وغير بيض، أو حتى من الأقليات، بأنه تمييز "ضدهم"، بل رمز لحرمان أولادهم من فرص التعليم. وهي نقطة انتبهت إلى خطورتها النائبة الشابة من الحزب الديمقراطي، المعروفة بمواقفها التقدّمية، ألكسندرا أوكاسيو كورتيز، التي حذّرت من أن المقاعد المخصصة للسود "بعد إلغاء التمييز الإيجابي سوف تذهب إلى أبناء الشرائح الثرية"، أي إن إلغاء التمييز الإيجابي لن يفيد أبناء البيض الفقراء، فالإصرار على الحفاظ على نظام مراكمة الثراء الفاحش أسّس لوهمٍ كاذبٍ عند ليبراليين كثيرين أن الموقف الإنساني التقدّمي يتلخص في الإبقاء على "التمييز الإيجابي"، متغاضياً عن الاعتراف بالخلل الاجتماعي الاقتصادي، فمن السهل التسلح بموقف أخلاقي في ظاهره، لكنه ضحل، إن لم يكن كاذباً أو حتى غير أخلاقي في الجوهر.
لا يقلّل الإقرار بالخلل الخطير في النظام الرأسمالي العالمي من خطر شطب أي مبادرة أو إجراء قانوني يخفّف التداعيات الاجتماعية للتمييز العنصري. لكن، علينا أن نعي أنّ مِن أبرز مغذّيات الموجة العنصرية التي تجتاح العالم الخوف من الفقر والبطالة. والأدهى أن الحكومات المسيطرة تغذّيها باستمرارها في ممارسة السياسات الاقتصادية نفسها، وبعض الحكومات والأحزاب تجاهر بإلقاء اللوم على الأقليات والمهاجرين ولاجئي الحروب. وليس سرّاً أن أحد أسباب نجاح ترامب في الانتخابات أن فئات واسعة من العمّال، وأكثرها من البيض، وجدوا في خطابه الشعبوي اليميني خلاصاً لمشكلاتهم، بأن المنافس هو "الغرباء".
من المرشّح أن تلجأ الحكومات الليبرالية إلى عدم مواجهة اليمين المتطرّف، وإنما إلى القوة البوليسية لقمع الفقراء و"الغرباء"
فتح القرار الباب لسجال وجدل، ليس حول سياسة القبول في الجامعات، بل حيال قراراتٍ أخرى تدعم التمييز ليس ضد السود والمهاجرين فحسب، بل ضد الطبقات الفقيرة، فقد رفضت المحكمة العليا طلباً من الرئيس جو بايدن بإعفاء الطلبة من نسبة من القروض الجامعية، أي نحن نشهد إعلان حرب عنصرية وطبقية في آن واحد، برعاية أعلى جهة قضائية أميركية.
عليه، لقرار المحكمة العليا تداعياته العالمية، فهو رسالة معنوية إلى الحركات اليمينية في العالم، وتحديداً في أوروبا، تغذّي الكراهية، فهي ليست مسألة جامعاتٍ عريقة فحسب، بل هي إقرار نظام طبقي لا يعترف بالتمييز العرقي جريمة. والأنكى مشاركة قاضٍ من أصل أفريقي هو كلارنس توماس، في دعم القرار وبقوّة، وهو الحقوقي المحافظ الذي عيّنه جورج بوش الأب في خطوة تمهد لانقلابٍ على تشريعات حقوقية تمسّ الأقليات والنساء، وتمكّن من استمرار نهج الحزب الجمهوري. لكن ما حدث ويحدث أن التداعيات كانت أكثر يمينية مما أرادها جورج بوش الأب وتياره المحافظ في التسعينيات، فترامب، الذي يمثل أقصى اليمين، أكمل المشوار بتعيين قضاة أكثر يمينية وأكثر تشدّداً، فحين نتحدّث عن حكم القانون، تتمتّع المحاكم العليا في بلد مثل أميركا بقوة تتجاوز البيت الأبيض، والمحكمة العليا الأميركية، بتركيبتها الحالية، هي الوجه الآخر والأخطر لليمين الأميركي الشعبوي، الذي اجتاح الكونغرس، ويهدّد المهاجرين والقوى المناهضة للعنصرية، ليس في أميركا فقط، وإنما في الغرب والعالم.
هيمنة اليمين المتشدّد على محكمة العدل العليا في أميركا، الذي يجمع بين إذكاء العنصرية، وتوحّش النظام الرأسمالي، بدون رتوش أو تجميل أو ترقيع، يحرج الإدارة الأميركية والحكومات الليبرالية في الغرب، التي تقف عاجزة لأنها معنية بالحفاظ على النظام نفسه الذي أنتح التيارات اليمينية، بل من المرشّح أن تلجأ الحكومات الليبرالية، كما يحدُث حالياً في فرنسا، إلى عدم مواجهة اليمين المتطرّف، وإنما إلى القوة البوليسية لقمع الفقراء و"الغرباء".