العار القومي العربي
"كيف تنظر في يد من صافحوك فلا تبصر الدم في كل كفِ؟". أبصرت الدم يقطر من بيان المؤتمر القومي العربي الذي انعقدت دورته الحادية والثلاثون في بيروت قبل أيام.
حمل البيان أسماء 230 عضوا من مختلف الدول العربية، في مقدّمتهم السياسي المصري حمدين صباحي الذي انتُخب أمينا عاما. أشاد الموقّعون "بالصمود الأسطوري لسورية شعباً وجيشاً وقيادة، في مواجهة الحرب الكونية التي استهدفت إسقاط الدولة"، ودعا البيان جامعة الدول العربية إلى "تصحيح الخطأ الاستراتيجي الفاضح" الذي ارتكبته بتجميد عضوية سورية.
هكذا يصبح السفاح العربي الأكبر بالعصر الحديث مناضلا، ويصبح قصفه مدن بلاده بطولة. هذه ليست جثث أطفال مختنقين من السلاح الكيماوي في الغوطة، بل هم "مقاتلون كونيون"!
طالب البيان بإطلاق حركة شعبية عربية ودولية لإسقاط "قانون قيصر". لا بأس بانتقاد قانون العقوبات الاقتصادية الأميركي لو كان منطلقا من رفض الإضرار بالمدنيين السوريين، وفي الوقت ذاته، إدانة النظام الإجرامي المتسبّب بصدوره. جاء مسمّى القانون من الاسم المستعار لمنشق سوري سرّب 55 ألف صورة لجثث قتلى تحت التعذيب في سجون النظام. .. هل شاهد الموقّعون على البيان صور قيصر؟ هل شاهدوا العظام المكسورة والعيون المقلوعة؟ هل شاهدوا أجسادا مشوّهة تحولت حرفيا "جلدا على عظم" من فرط التجويع؟ لم يشهد العالم صوراً كهذه منذ الهولوكوست النازي، بينما لدينا عرب عُميان إلا عن قميص فلسطين المرفوع على منبر دمشق.
ومن مساخر البيان أنه احتوى فقرة قصيرة تقول إن الديمقراطية ضرورة وطنية وقومية وتشكّل "مسلكاً إجبارياً إلى الوحدة العربية"، كلام جميل، وتطبيقه الأمثل بالطبع هو دعم التجربة الديمقراطية السورية الرائدة.
تتكرّر الرؤية الأحادية ذاتها إلى كل قضايا العالم العربي. مثلا، في الشأن السوداني لا يذكر البيان حرفا عن انقلاب الجيش على اتفاق المرحلة الانتقالية، بل بالعكس يدين دعوة رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك، إلى تشكيل بعثة الأمم المتحدة التي تمثل "أقصى درجات الانتهاك لسيادة السودان واستقلاله". يذكّرنا ذلك بدعمهم نظام عمر البشير ضد قرار الجنائية الدولية من دون كلمة عن المذابح والاغتصابات في إقليم دارفور. إذا كانت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية كلهم متآمرون كونيون، فماذا فعلتم أنتم؟ هل شكّلتم لجنة تقصي حقائق جادّة، واختبرتم تعاون السلطة معها؟
يزيد العبث استخدام البيان اللغة المتخشبة ذاتها ضد كل تدخل خارجي غربي فقط. في الشأن العراقي، نجد مطالبة بوقف التدخل الأميركي والتركي، من دون ذكر كلمة إيران، رغم أنها الفاعل الأكبر في إجهاض حراك شباب العراق الذي يُقتل في الميادين. وبالمثل، لا نجد حرفا عن الدورين، الإيراني والروسي، في سورية.
هذا البيان عار على من كتبه، وعلى من وقعوه ونشروه. يضرّ بالقومية العربية أكثر من أي فعل أو قول من خصومها.
قبل سنوات، كنت أقدّم تدريبا صحافياً لشباب سوريين، فاقترح أحدهم موضوع "انقراض الأسر السورية"، لأفاجأ بما يعجز الخيال عن استيعابه. حكت فتاة من القصير عن فقدها 105 أشخاص من أسرتها! روت أنهم كانوا يحتفظون بعلاقات ودية للغاية مع حزب الله، بحكم الحدود والقضية المشتركة، لذلك حين انتفضت المدينة، وانشقّ ضباط رفضوا أوامر القتل، أولهم المقدّم محيي الدين الزين، لم يخطر ببالهم أن المذبحة ستأتيهم من الخلف. قالت إنها وأمثالها كفروا إلى الأبد بتلك الراية التي قتلوا تحتها، كما كفر عراقيون بالقومية العربية بسبب دموية صدّام، وكفر بها ليبيون بسبب جنون القذافي، ومصريون بسبب هزيمة عبد الناصر.
ربما نتفهم بعض ما حدث في الماضي باعتبار أن قضية الديمقراطية لم تكن محسومةً بشكلها الحالي، وقد تكرّر نموذج الآباء المؤسّسين المستبدّين في العالم. ولكن اليوم، وبعد كل الدماء التي جرت في الشوارع، لا عذر لأعمى أو متعامٍ. واليوم، بينما تكتسب قضية فلسطين مساحات عالمية جديدة، بوصفها قضية نضال ضد الفصل العنصري، تمثل توقيعات الفلسطينيين اليساريين والإسلاميين على هذا البيان ضربة لصميم قضيتهم أمام شعوبنا أولاً قبل الصعيد العالمي.
تتكرّر في خطابات شعبوية عربية دعوات غسل العار بالدم. اليوم الدم هو العار. اغسلوا عاركم بالديمقراطية!