العار العربي الكبير
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
كنّا نسمع، في طفولتنا، كثيراً عبارة الوطن العربي الكبير الذي تربطه اللغة والثقافة والتاريخ كحبل متين يجمع الشام ببغداد واليمن ومصر بتطوان (بحسب إيقاع القصيدة المحفوظة للشاعر فخري البارودي). وأتذكّر أن محاضرة أحياها محمد عابد الجابري في مسقط، قبل نحو ثلاثة عقود، وكانت القاعة تغصّ بالحضور. حين قال في مطلع محاضرته: "إني أتيت من الرباط إلى مسقط على طائرة حطّت بي طولياً فوق بلدان كلها عربية"، ثم عدّها على الجمهور.
وقد كشفت أحداث غزّة، بما لا يدع مجالاً للتردّد، عن أن الوطن العربي الكبير لا صوت له ولا تأثير، بل يعجز حكّامه، ليس في الدفاع عنه فقط، إنما حتى في منع أن يموت جزء من أهله جوعاً. حتى أولئك المطلين على فلسطين لا يمكنهم فعل أي شيء تجاه هذا الأمر البديهي، وكأن أيديهم مغلولة تماماً، ما أثار كثيراً من سخرية العالم علينا، فضلاً عن سخرية شعوب عربية من حكّامها، وهو ما تعبر عنه وسائل التواصل الاجتماعي. الغريب أيضاً أن بعض العرب يعوّلون على وزير الخارجية بلينكن في أن يحدّ من غطرسة الكيان الصهيوني وغلوّه وساديّته، متناسين أو متغافلين بأن بلينكن في جميع زياراته إلى إسرائيل كان يجتمع في غرفة عمليات الحرب وبالصورة المنقولة بوقاحة، وكأنه ليقول لنا إنه يساهم علانية في وضع خطط الإبادة، فضلاً عن إعلانه الصريح أنه صهيوني مع سبق الإصرار والترصد. ربما لم نجد أنفسنا، نحن العرب، في مثل هذا العار الكبيرالذي نشعر به الآن أمام أنفسنا قبل أن نشعر به أمام العالم، عار العجز والتخاذل والتسويف والاستعانة بالمشاركين في الجرم.
قال مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، إن غزّة كانت أكبر سجن مفتوح قبل الحرب، لكنها اليوم تحولت إلى أكبر مقبرة مفتوحة، لأنها لعشرات الآلاف من الأشخاص، كما أنها مقبرة لكثير من أهم مبادئ القانون الإنساني. كلمة حقّ يراد لمسؤول في تكتّل الاتحاد الأوروبي الذي فيه أكبر ممولي إسرائيل، فليستقِل بوريل، إذن، لو كان ما ما يشعر به يتناسب مع فداحة ما يراه من قتلٍ طال كل شيء حتى المرضى الرضّع. ولكن اللؤم الغربي انكشف، وما ذلك القول المنمق إلا أسلوبٌ من أساليب توزيع الأدوار فيما بينهم.
حين غزت روسيا أوكرانيا، انتفض الغرب بأكمله في تسونامي عقوباتٍ على روسيا، ولم يكتف بالعقوبات، إنما زوّد أوكرانيا بالسلاح أيضاً. بينما في الحالة الفلسطينية، التي يتّضح الحق فيها وضوح الشمس، ويميل كلياً إلى الشعب الفلسطيني الذي احتلت أرضه واتنزعت منه حتى ملكية النصيب اليسير مما تبقى له، وحوصر ونهب حتى في ثقافته عقوداً. بمجرّد ما عبر هذا الشعب الصامد عن هذا الحق بطرقه المناسبة، قام كثيرون عنصريون في الغرب ضده، وحاولوا أن يصادروا حق تعبير الضحية عن آلامها، بتكميم أفواه الإعلام وتوجيهه وجهة يبتغونها. الغرب الأناني الذي ما زال يعتبر نفسه صاحب الحق الحضاري، بيد أن هذه الحضارة ليست حكراً له. لقد ساهم فيها مختلف الشعوب، خصوصاً التي لسوء حظها كانت تحكمهما حكومات ديكتاتورية الأمر الذي هجرها إلى رحابة بلدانهم وضمنهم العرب والأفارقة والآسيويون. كما سقط على جدران غزّة المغلقة قناع حقوق الإنسان والعدالة والحرية، لأن التظاهر الفطري والطبيعي البشري ضد عنصرية الكيان الصهيوني وعنفه صار يقابل في بعض هذه الدول بالعنف.
ساهم الغرب في تمزيق بلدان الشرق الأوسط، ومن الغباء الكبير أن العرب ما زالوا يعوّلون عليه في أي شيء. إذا لم يعتمد العرب على مقدّراتهم، وعلى أنفسهم ويتراصّوا في سبيل مصالحهم، فسيُصطادون كلٌّ على حدة. وهذا يحصل كل يوم أمام أعيننا، فمن الذي ساهم في إضعاف العراق وسورية والسودان مثلاً، ويمكن الحديث أيضاً عن لبنان واليمن، إلا ضعفنا الواضح واستنادنا إلى قوة الغرب وضميره المنافق، هذه القوة التي لا تعترف بالضعيف إلا لكونه تابعاً لها. إنها تلعب معه مؤقتاً كما يلعب السبع بضحيّته ومعها، قبل الالتهام.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية