الظاهر والباطن بين طهران وواشنطن

07 ديسمبر 2020
+ الخط -

منذ عقود، والعلاقات بين طهران وواشنطن تتميز بطبيعة خاصة، وإن لم تكن متفرّدة، فهي نموذج كلاسيكي للعلاقات بين دولتين تجمعهما ملفات كثيرة، وتتنوع التفاعلات بينهما من التعاون إلى التصارع. وتشهد العقود الأربعة الماضية على ثبات هذه العلاقة المزدوجة والواقعية. بدءاً من أزمة الرهائن الأميركيين (نوفمبر/ تشرين الثاني 1979 – يناير/ كانون الثاني 1981) وصولا إلى اغتيال العالم النووي محسن فخري زادة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2020)، وبينهما محطات كثيرة مهمة، وبالغة الدلالة، على طبيعة تلك العلاقة الارتباطية التي لا يصلح معها وصف واحد إجمالي، فالأصل فيها "لا توافق شامل ولا تناقض كامل". لكن المبالغة وتضخيم الاختلاف يجعله الظاهر على سطح التفاعلات بين الدولتين، ففي منتصف الثمانينيات، حين كانت طهران تصف واشنطن بالشيطان الأكبر، لم تتوقف العلاقات السرّية بينهما، بل وصلت إلى تزويد إيران بأسلحة أميركية بواسطة إسرائيل! وشهدت العمليات العسكرية لإخراج العراق من الكويت عام 1991 تنسيقاً وتفاهمات أميركية إيرانية. وتكرّر الأمر ذاته، ولكن على نطاق أوسع وبتفاهمات أعمق، قبل الغزو الأميركي للعراق في 2003، وفي أثنائه وبعده. ولم تنقطع الاتصالات المباشرة وغير المباشرة في محطاتٍ كثيرة. ولم تتوقف التفاهمات الضمنية والصريحة بشأن ملفات مهمة، من لبنان إلى اليمن ومن العراق إلى الخليج. وأياً كان مستوى التفاهم وحدود التنسيق، كان الثابت دائماً هو التراشق الإعلامي والاتهامات المتبادلة والتوتر الظاهري.
وليس أدلّ على تلك الفجوة بين واقع العلاقات وظاهرها أن البرنامج النووي الإيراني أكثر الملفات مدعاة للقلق عالمياً، وليس فقط أميركياً، بدأ واستمر وتطور تحت سمع الولايات المتحدة وبصرها، بل شهدت طموحات إيران النووية قفزة نوعية، وتم تدشين برنامج نووي حقيقي وخطير، عام 1992 قبل خروج جورج بوش الابن من البيت الأبيض، حيث أبرمت إيران حزمة اتفاقات مع روسيا، لتطوير القدرات النووية الإيرانية، بمختلف مكوناتها البنيوية والمعرفية والتكنولوجية. وبينما راحت طهران تطوّر قدراتها، بل وتمارس أنشطة نووية سرّية ما يقرب من عقدين، لم تحرّك واشنطن ساكناً من بوش الأب إلى كلينتون ثم بوش الابن ومن بعده أوباما، وصولاً إلى ترامب. وها هو جو بايدن، على نهج سابقيه، يمارس اللعبة نفسها، بالشد والجذب الإعلامي والتصريحات، وليس بالأفعال.
والمثير للدهشة أن طهران اتبعت النهج الدعائي نفسه، وتبنت لغة الخطاب الهجومي نفسه الذي يظهر عداء كلامياً. بينما السلوك الواقعي حيادي، إن لم يكن تعاونيا. لكن طهران تمكّنت من بناء منظومة نفوذ شاملة في الشرق الأوسط، تضم وكلاء، ونقاط هيمنة حصرية، وأذرعا تجيد دائماً توجيهها وتحريكها في الاتجاه والوقت المناسبين. بينما لم تستطع واشنطن فعل الشيء نفسه، لذا تضطر إلى استخدام أدواتٍ محدّدة، وأوراق فعاليتها محدودة، فعدا عن خيار المفاوضات، لا تملك واشنطن الضغط على إيران سوى بالعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، أو باستخدام القوة الخشنة، مباشرة أو بواسطة إسرائيل. وذلك الخيار الأخير هو الذي يحاول دونالد ترامب تنفيذه في الأيام القليلة المتبقية له رئيساً. وسواء نجح في ذلك أم أخفق، النتيجة الوحيدة المتوقعة هي مزيد من التعقيد، بانتظار بايدن في الملف الإيراني.
ولأنها تدرك جيداً هذه المعضلة الأميركية، رفعت طهران مستوى أنشطتها النووية بزيادة نسبة التخصيب، وأقرّت تشريعاً برلمانياً يهدّد بتجاوز هذه النسبة، إذا لم يتم تخفيف العقوبات خلال شهرين، شرطا لاستئناف التفاوض مجدّداً مع واشنطن. وليس استباق دخول بايدن البيت الأبيض سوى خطوة تكتيكية قديمة، تكرّرت كثيراً في إطار المناورات التفاوضية الكلاسيكية المعتادة بين طهران وواشنطن. وأياً كانت تطورات الأيام المقبلة، ستُستأنف المفاوضات بين طهران وواشنطن، بعد تولّي بايدن رسمياً، فهي الخيار الأقل كلفة والمفضل أيضاً، للطرفين، على عكس ما يُظهران دائماً.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.